البدو الـرُحّل

البدو الـرُحّل

البدو الـرُحّل

 صوت الإمارات -

البدو الـرُحّل

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

النجاح مطلب الجميع وإن تفاوتت طرقهم للوصول إليه، والتميّز عن البقية كفردٍ أو كيانٍ أكبر هو ديدن البشرية ودأبها منذ بداية الزمان وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وأساليبهم للنجاح متغايرة بتغاير النفوس واختلاف منظومات القيم والأخلاق التي يحملونها، فهناك مَن يتعب للتفوّق، وهناك مَن يُقلّد غيره، وهناك مَن يسرق مجهود مَن هو أفضل منه، وهناك مَن يتخبّط يُمنةً ويُسرة في محاولات متشنجة للنجاح من دون أن يتأنى بما فيه الكفاية خوفاً على الـ«كعكعة» مِن أنْ «يتناتفها» البقية ولا يجد حتى الفُتات منها!

مِن أبجديات الحياة أن التسرّع في القرارات ينتج عنه قرارات متسرعة أخرى لتقليل الأثر السيئ للقرارات الأولى، ومما يروى عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قوله: «إنما الصبرُ عند الصدمة الأولى»، فما لم تستطع أن تتحكّم في نفسك وتجعل انفعالاتك تنقاد لك لا أن تنقاد لها أنت وإلا فإن ردّك المستعجل لما يُصادفك قد يأتي بنتائج لا تزيد الوضع إلا سوءاً.

يقول الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو: «عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يجد ألماً في أمعائه، فإنّه يُبادِر إلى محاولة إصلاح العالَم»، هذه النزعة لتغيير كل شيء حولنا تنتاب الجميع لكن هناك من يتحكّم بها وهناك من تتحكّم به، إنْ تحكّمتَ بها استطعت أن تَزِن قراراتك بعقلانية وهدوء، وإنْ تحكّمتْ بك جعلتك تعيث بما حولك تغييراً لا يتوقف مما يتسبّب بخسارتك لجولات عديدة في رحلة النجاح والتفوّق.

إن اتّفقنا على ذلك، فإننا سنتفق على أنّ كثرة التغيير في إدارات المؤسسات ومناصبها القيادية هو أمرٌ مُدمّر لها إنْ تم من دون داع أو للتعوّد على التغيير الدوري والفهم الغريب للبعض لسياسة «التدوير»، بعض المؤسسات تكون للتو قد حفظتَ اسم مديرها ثم لا يلبث أن يتم تغييره بآخر ثم آخر.. وهكذا في نهج يصعب استيعابه كمشاهد فما بالك بموظفي تلك المؤسسة، المؤسسات لا تحتاج أن نجعلها تعيش الفصول الأربعة كل سنة، الاستقرار شرط أساسي للنمو والتطوّر، وكثرة التغيير مرهقة للذهن ومشوّشة للخطط ومضيّعة للأوقات والنفقات!

ضحك معي أحد الزملاء عندما قلت له إنّ بعض المؤسسات أصبحت أشبه بالبدو الرُّحَّل، فإداراتها تتغير باستمرار ولا يَقَرُّ لها قرار، يأتي المدير الجديد وهو يعلم أنّه لن يستمر طويلاً فلا يهتم كثيراً بالبناء والتأسيس لكيانٍ مؤسسي «صحي» التكوين والخطوات والخطط، ولا يكترث لتطوير قدرات الموظفين أو تحسين الإجراءات أو المراهنة على خدمات ومنتجات جيدة في المستقبل، بل جُلّ تركيزه على تلميع نفسه لكيلا يرحل أو الحصول على أكبر قدر من المكتسبات قبل أن يأتيه ذلك القرار «المتوقّع»!

يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بتصرّف عندما يتحدّث عن البدو وأرجو ألا يتحسّس البعض فهو لا يقصد الإساءة ولكنه استقرأ حال قبائل البدو كبني هلال وبني سليم عندما اجتاحوا شمالي إفريقيا: «فهم إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأنهم أمة وحشية بالطبع، وتعودوا عدم الخضوع لحاكم أو سياسة، وهذا ينافي العمران، وقد اعتادوا الرحلة والغارة، وذلك يناقض الاستقرار وهو أساس العمران» ويكمل قائلاً: لذلك يكون سهلاً عليهم تخريب المباني واستخدام حجارتها للطبخ عليها، واستخدام خشبها للتدفئة. ثم إن طعامهم في انتهاب ما في أيدي الناس، ثم هم لا يرون قيمة لعمال الحرف والصناعة ويسخّرونهم بلا أجر فيكف العمال والحرفيون عن العمل، وتتوقف حركة العمران!

مؤسسات البدو الرحّل لا تختلف عن هذا الوصف، فمن يأتي وهو يعلم بأنه قد يُغادِر في أي لحظة لا يهتم بالمؤسسة إلا كوسيلة أو كوبري لتلميع نفسه لترمي به القرارات المقبلة في مؤسسات أخرى وليس على قارعة الطريق أو محطة التقاعد البائسة، فحتى لو كان جيداً مِن الداخل فإنّ الوضع غير الصحي والرحيل الذي قد يحدث في أي لحظة يُخْرِج رُغماً عنه كل ما هو غير سويٍ فيه، وهو أمرٌ لا يجعله يهتم بالبناء لمدة طويلة، كما أنه لن يهتم بأفكار الموظفين المبدعة، ولن يتمعّر وجهه لرحيل الموهوبين عن مؤسسته، ولن يُفكّر إطلاقاً في الغرس للغد لأنه ببساطة لا يؤمن بغدٍ له في هذا المكان، هو لا يعدو أن يكون من بدو الكراسي الرّحَّل!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البدو الـرُحّل البدو الـرُحّل



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates