بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
مما ترويه كتب التاريخ أن الوزير أمية بن عيسى بن شهيد ذهب لتفقّد السجن في قرطبة للوقوف على حال بعض الثائرين الذين تم القبض عليهم، فوجدهم ينشدون أشعار عنترة بن شداد العبسي أمام المؤدِّب الـمُكلَّف بهم، فأخذه بيده بعيداً عنهم، وقال له موبّخاً: «لولا أني أعذرك بالجهل وإلّا لأدبتُكَ أدباً موجعاً، أتَعْمَدُ إلى شياطين أبناء شياطين، قد شَجي بهم الخلفاء، فتروي لهم شِعر عنترة والشعر الذي يزيدهم بصيرةً في الشجاعة ؟ كُفَّ عن هذا ولا تروي لهم إلا هزليات أبي نواس وغزليات عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة»!
قد تنبّه العرب في تاريخهم لخطورة الكلمة، وكيف أنها أمضى من السيف في وَقْعها، وكيف أنّ الفكرة إنْ غُذِّيت بطريقة خاطئة تحوَّل معتنقها إلى أداة تخريب لمجتمعه، وكيف أنّ الكلمة السديدة تعدل المعوج وتهدي الضال وتشعل النور في ظُلمة الطريق، ولئن احتاجت الدول إلى فرسان في الميادين لحماية أراضيها فإنها تحتاج لفرسان قلمٍ وكلمة يذودون عن البلد في معركةٍ أخرى أشد شراسة، ألا وهي معركة الأفكار وبناء التوجهات، فالصراعات بين الدول لا تحدث والجيوش لا تلتقي في ساحات المعارك إلا لوجود تعارض أفكار وتضاد رؤى وتصادم عقائد، فالإرادة وحدها لا تتحرك من دون دوافع داخلية، وكما أن سيف الشر تشحذه فكرة شر، كذلك سيوف الحق تحتاج إلى عقيدة خير تجعل الدفاع عنها وعن أرضها أمراً لا تنازل عنه!
مرّت ببالي هذه التداعيات، وأنا أرى على أحد منصات التواصل الاجتماعي رسالة ساخرة من أحد الفارغين تجاه شخصية معروفة، ولها حضورها القوي في العالم الافتراضي في الرد على منتقصي بلاده وفي نقض بيوت العنكبوت التي تحاول نسجها ماكينة التلفيق وعرّابة الفوضى في بلاد العرب قناة الجزيرة القطرية، كان يحاول العبث وهو يقول له إنه لا يتوقع أن يراه على الخطوط الأمامية في معارك تحرير اليمن، ورغم السيل الجارف من الردود المؤيدة لتلك الشخصية والمعترفة بدورها المهم في ميدان «المعركة» بالعالم الافتراضي إلا أن بعض المغرَّرين كانوا يدخلون لمحاولة الانتقاص من دور معركة الفكر، وهو أمر لا يخفى إلا على صغار العقول.
يروى في تأكيد هذا عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن مالك وكان شاعراً مفوّهاً رضي الله عنه يدافع عن المسلمين ويهجو أعداءهم: «اُهْجُهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النَبْل»، فالكلمة تعدل الكثير عندما تُقال دفاعاً عن حق وفضحاً لباطل، فإن انتصر عدو في معركة الفكر فإنّ بقاء الدولة المقابِلة يُصبح محل شك وقد نخر سوس الباطل في دعائمها الداخلية، لذا كان لا بد لكل وطن أن يكون لديه فرسان يحفظون الجبهة الداخلية وينافحون عنها ويحمون جوهر الكيان مِن أنْ يُمَس بسوء من إعلامٍ معادٍ وأقلامْ مأجورة ومخططات خبيثة تكثر وجوه الشر وراءها!
معارك الفكر هذه لا بد أن تُدار وفقاً لصالح البلد وبما يُعزّز هويته ويؤكد خصوصيته ويحفظ مصالحه هذا في المقام الأول، أقول هذا بعد أن تابعت كغيري لفترة طويلة طروحات الكاتب الأميركي الشهير وأحد صُنّاع القرار في البيت الأبيض توماس فريدمان، والذي «صدّعنا» بالفزورة الأميركية عن محاربة الإرهاب، أو كما يحب أن يسميها «وأد» الإرهاب في بلدانه، وهنا فإنّ البلدان هي دولنا العربية فقط، وبأنّ ذلك لن يتأتى إلا بجهود تلك البلدان نفسها بدعم المعتدلين داخلها لجعل من يخرج عن خط الاعتدال «المرضي عنه أميركياً» نشازاً بحتاً، هذا الطرح يتناقض مع سكوت الإدارات الأميركية المتعاقبة ديمقراطيّها الفائت وجمهوريّها الحالي وفوقهم توماس فريدمان عن ممارسات قناة الجزيرة القطرية في دعم وتعزيز وجهات نظر كل الجماعات الإرهابية من داعش إلى تنظيم الإخوان إلى القاعدة إلى عصابات الحوثيين والحديث بألسنتهم في كثير من تقاريرها ومتابعاتها، أين الاعتدال إذاً؟ وأين وأد الإرهاب؟ أليس السكوت نوعاً من الرضا؟
إن صالح البلاد لن يعرفه إلا قيادات البلاد نفسها، أمّا الدول الكبرى فلا ترى إلا صالحها، وما لَم تُلْجَم قناة الجزيرة وكل أبواق الشر كما أسكت الوزير ابن شهيد مؤدب السجن وإلا فإنّ الإرهاب سيبقى، ومعارك الميادين ستزيد لأن معركة الفكر قد حشد لها الخونة كل أدواتهم، الأمر الذي يجعل المسؤولية أعظم على عاتق مفكري وكتّاب وعلماء الأوطان لشد النسيج المجتمعي وتعزيز الجبهة الداخلية، معركة الفكر هي من دون جدال أم كل المعارك!