نتواصل للعام السابع على التوالي، ونتناول هذه المرة عملاً توثيقياً آخر بالكلمة والصورة، فالذكريات تعني الكثير لكل إنسان، وتبقى عالقة بالأذهان على مر السنين، وصور الذكريات هي التي تجسد أصل وأساس الحكاية، لأنها تذكرنا بالأيام الجميلة التي نتمنى أن تعود إلينا من جديد.
«كانت أيام» جزء مهم في مسيرة الرياضة الإماراتية، يستعيد بعض التفاصيل الثرية التي حدثت خلال الحقبة الماضية التي نحكي فيها عن الأحداث والمناسبات التاريخية، ونلقي الضوء على الأشخاص الذين كانوا فاعلين في بؤرة الأحداث بصور مختلفة ومتنوعة، تنشر غالبيتها للمرة الأولى، وترصد تاريخ رياضتنا طوال الخمسين سنة الماضية.
فكثير من هؤلاء، الذين مروا علينا، كانت بصماتهم واضحة على رياضتنا، ولم يعد يتذكرهم الجيل الحالي، فمنهم من غيبه الموت، ومنهم من تقدم به العمر، لكنهم أسهموا إسهاماً فاعلاً في تقدم الرياضة الإماراتية ورفعة شأنها.
وعملوا بإخلاص وتفانٍ، ولم يستغلوا مناصبهم في تحقيق مكاسب شخصية، «كانت أيام»، هي فرصة لرد الجميل لكل هؤلاء، واحتفاء بالرموز لكي تكون قدوة ونبراساً في العطاء للجيل الحالي.
مستشار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، للشؤون الثقافية والإنسانية إبراهيم بوملحة، قام أخيرا بإصدار كتابه الجديد «الفريج ذكريات في الزمن الجميل» وفي أحد الفصول الهامة فيه، وضع أولوية خاصة لدور الطفولة والهواية.
ونظرا لأهمية تلك المرحلة بالنسبة لمجتمعنا نصحبكم بجولة في هذا الملف التوثيقي الهام، كتب بوملحة: في أوقات الليل في الأحياء جاذبية خاصة لدى الأطفال الذين ينتظرونه على أحر من الجمر شوقاً إلى ما يحققه لهم من معاني المتعة التي يحصلون عليها من خلال ما يقص عليهم فيه من قصص وحكايات.
حيث كثيراً ما كان ينشد ذهن الأطفال «الخراريف» وأحدها «خرّوفة» وهي القصص الخيالية التي يستمعون إليها من الكبار ليلاً قبل أن يناموا، وتزخر الذاكرة الشعبية بأشكال وأنواع من هذه القصص والحكايات وأكثرها ما كان يدور في فلك الخيال واللامعقول ليضفي عليها صبغة من الانجذاب والاهتمام، وأكثر شخصياتها مخيفة ومرعبة.
وتقوم بأدوار كثيراً ما تخيف الأطفال مثل بابا دريـاه وأم الدويس وخطّاف رفّاي والبعير المقطوع رأسه، وعن كثير من حكايات الجن وغير ذلك من قصص العنف والدماء، حتى إننا نبيت أحياناً ملتصقين بأمهاتنا من التأثير السلبي لهذه القصص علينا.
وإذا كنا خارج البيت ليلاً لغرض ما كشراء عشاء للأهل من بعض الدكاكين التي تقوم بمهمة ذلك، تجدنا إن وصلنا إلى السكيك وكانت مظلمة في ذلك الوقت نظراً لعدم وجود كهرباء، نضع أطراف ثيابنا بين أسناننا ونعض عليها ونركض مسرعين في هذه السكيك المظلمة التي تثير خوفنا لنصل إلى البيت بسرعة من جرّاء تأثير تلك القصص علينا وخوفنا الشديد من أن يخرج إلينا أحد شخصياتها في هذه السكيك المظلمة ليحدث بنا ما يحدثه لضحاياه في تلك القصص التي تشربتها أفئدتنا الصغيرة.
وإذا حدث ونحن نركض في سكة ما أن تحرّك شيء أمامنا أو خلفنا بفعل شيء من الريح أو بحركة قطة مثلاً زاد خوفنا وارتفع نبض قلوبنا من شدة الخوف والرهبة، ولا نحس بالأمان إلاّ ونحن ندلف كالسهم إلى داخل البيت، ولا تزال أحداث تلك الخراريف وشخصياتها ماثلة في أذهاننا بكل تفاصيلها لطول ما عايشنا سردها في طفولتنا.
وبشكل يومي منذ بداية استعدادنا للنوم كل ليلة إلى أن يداعب النعاس أجفاننا ونغط فيه، إذ لم يكن وقتها قنوات فضائية تشغل وقتنا وتستقطب اهتماماتنا الصغيرة من أفلام وبرامج أطفال وإنما كانت تسليتنا تنحصر في الليل في مثل هذه الخراريف نستمع إليها ونتفاعل معها ونحفظها وتعاد علينا وتتكرر في كل ليلة وخاصة في ليالي صيف البراحة دون أن نمل منها.
فقد كانت هذه الخراريف كثيرة ومتنوعة وذات أحداث وشخصيات مختلفة ولكن معظمها كانت تدور في عالم الخيال غير المحدود وبما يناسب ذهن وخيال الأطفال وبعضها يحكي عن الجن والعفاريت لأنه جزء من الخيال الذي يعشقه الأطفال بينما بعض الخراريف ذات وداعة وشفافية تخاطب الشعور والوجدان الإنساني للأطفال.
ذاكرة الطفولة
ولقد صارت هذه الخراريف جزءاً من ذاكرة الطفولة في ذلك الوقت في كل بيت فيه أطفال، ولا يكاد يأتي الليل بظلامه إلا ويبدأ الأطفال، يستعدون لسماع هذه الخراريف من الكبار خاصة من الأم أو الجدة وأحياناً قليلة من الأب أو الجد أو يتولى المهمة أكبر الأطفال عند عدم وجود الكبار أو انشغالهم بحكاية هذه الخراريف عنهم.
ولكن لا تتحقق لبقية الأطفال تلك المتعة المنشودة التي تتحقق لهم عندما يستمعون إليها من الأمهات أو الجدات اللواتي يروينها بطريقة فيها الكثير من التشويق، ما يشد ذهن الأطفال ووجدانهم ويأسرهم ويجعلهم صامتين لا يتحركون وهم يستمتعون بانجذاب ومتعة وشوق منقطع النظير إلى ذلك السرد الجميل الشيق.
أطفال لكن كبار
ويضيف بو ملحة في كتابه «الفريج ذكريات في الزمن الجميل»: ربما كان أطفال ذلك الزمن سابقي عصرهم في تفكيرهم وطموحاتهم وآمالهم وتفاعلهم مع قضايا وطنهم وأمتهم رغم صغر سنهم في ذلك الوقت.
فعلى سبيل المثال كنا ننشئ في أحيائنا فرقاً لكرة القدم ونستأجر لها مقرات مثل دكان أو غيره من مصروفاتنا التي نساهم بها جميعاً كاشتراكات شهرية وما نقوم به من تنظيم إداري لهذا الفريق من اختيار رئيس له ومدرب وأمين سر وأمين صندوق ومراسلات بين الفرق لعمل مباريات بينها ووضع كؤوس صغيرة... وغدا نكمل ذكريات بو ملحة..
ربع روبية
يقول إبراهيم بو ملحة: كنا ونحن صغار نتعازم في أيام الجمع، وذلك بأن يقوم كل واحد منا بدفع مبلغ في حدود ربع روبية تقريباً ونذهب به إلى سوق السمك ونشتري منه بعض الأسماك ومستلزمات الطبخ من رز وملح ودهن وبهارات، ونذهب لبيت أحدنا ونشترك معاً في الطبخ، مرة صالونه، ومرة مكبوس، ومرة مشوي.
هريس
يقول إبراهيم بو ملحة: مما زاد من معرفتنا بالطبخ وإجادتنا له أننا عندما كنا طلبة ندرس في القاهرة دراستنا الجامعية كنا نتسلّى كثيراً بطبخ أنواع من طبخنا المحلي حتى أصبحنا من الذين يجيدون هذا الطبخ ونتفنّن فيه، حيث كانت صلتنا بالمطبخ جيدة، حتى الهريس كنا نطبخه أحياناً ونقدّمه صباحاً على مائدة إفطارنا.