علي ابو الريش
مطر.. مطر.. بلل للشجر، وأنشودة للطير، ومناخ يفتح للشعر، نوافذ البوح، فتفرد الزهرة المخبوءة في القلب أجنحة الفرح، ولا يشيخ الدهر، لا ينكفئ الوجدان هنا في آخر الأشجان، تنمو نخلة ويسرج البحر شموخاً ورسوخاً والسماء البيضاء تحكي عن قصة قصيدة بدأت في الحب، واستعصمت بحبل القافية والوزن.
كان في النهار طيور وسرور، وحبور، وزهور، وجذور، ترتوي من القطرات وينتشي المكان، ورموش تكنس القطرات دانات على الخد والجبين، والقمر اللجين يسفر ويزهر ويزدهر ويسافر في العيون مركباً محملاً بأعشاب النمو، يسافر في ثنايا الزمن كأنه الطائر التلف الكلف، كأنه السقف المرفوع على كتف العشاق، العشاق الذين يبللون الرضاب بالرضاب، ويملؤون الخضاب برائحة وطيب، يغسلون ثوب الليل بعطر وسهر وشغب وانسكاب الموج عند سواحل المعرفة عند شغاف المحارات الوالهة عند رغبة لم تزل ترهف السمع، للرفيف والهفيف وتحدق في الأفق، هنا في أفق الزمان تسري دماء وماء ويتشرد الجسد تحت زخات ونثات وثبات وخبات، هنا العشاق وحدهم الذين يرصدون نبضات المطر، ويحفظون النقرات على الأرض حين تجدل الأرض جداول الارتواء، وتسكن في الصدر الحرقة اللذيذة، والشيء الجميل أن تحت المطر كل شيء يبدو مبللاً إلا العيون لأن الرموش خيوط الحرير تشكل قماشة الاحتماء والاحتواء والاستواء، والرموش في حد ذاتها سيوف وسقوف، ومدارات تحيل الزمن إلى مقلة العين، كي نرى وكي نحسب عدد القطرات التي ترسم اللوحة على الأرض والتي تصيغ الجملة الفعلية عند صفحة القلب.
مطر.. مطر.. كم هي الأيام واسعة، مثل ثوب فضفاض عندما لا يأتي المطر وعندما تخلع السماء لباسها الأبيض، وترتدي الأزرق اللامع، هنا يعانق الطير وحدته وعزلته وتكتسي الأجنحة بعبء النهار الرمادي، وتعيد الأٌغصان ترتيل حروف الجفاف، وكل شيء يبدو مثل الوعاء الخاوي كل شيء يعتنق الانتظار وسيلة وحيلة ويكتسب خمولة.
مطر.. مطر.. وتحت المطر تستتر في الحبات الليلكية نوابغ البريق، ويسكن شهيق الغيم المتألق، وهو يخض الضرع، كي يأتي البلوغ الأبدي، ويأتي الوجود مشبعاً ببهجة العشب القشيب، والرمل الأصفر، يحيك من حباته، شرشف البخور ليضحك الوجود وتغني أشجار الغاف والسمر ويتدلى الثمر من عناقيد وجلاميد، ويسكن القلق وتلهج الألسن بـ «قل أعوذ برب الفلق» وإن كنا نحلم، فالحلم المبلل بالمطر، يأتي مثل سنبلة هيفاء رافلة بأكسير الحياة.