علي أبو الريش
في عزلته تبدو المنطقة المحاذية للجلال مثل نبتة تفرعت سنابلها، صارت حلماً يصبو إليه كل من أحب الوطن واشتاق للشهادة، هذا البطل نحت في الذاكرة كلمة، صارت الكلمة غيمة، نثت الغيمة مطراً، صار المطر نهراً، سبحت في فيحائه أجنحة وعيون، عيون الناس العاشقين، عيون الأحبة المدنفين، عيون الوطن وهو يرفع الراية عالياً، متجلياً باسم لا يضاهيه اسم، ولا رسم ولا شيم ولا قيم، الإمارات حقل مزروع بأعشاب الحياة، برزخ متألق بشعاع ويراع، والشهيد وحده الذي يقرأ الملامح جيداً، ويتهجى حرف الحاء وحرف الباء، بتأنٍ متفانٍ في التلاوة.
في عزلته، تبدو الوحدة مشمولة بالأدعية ووفاء الوطن وبهائه وصفائه وبقائه وصعوده نحو غايات الأمل، ومستقبل أجيال رسموا في كراسة المدرسة صورة شهيد قبل أن يقبل التراب ويرسل رسم الابتسامة، وأغمض عينيه على شعاع الشمس، متأنياً في حياكة الصورة، متصدراً المشهد، بطلاً باسلاً أعطى ولم يبخل، قدم ولم يندم، والوطن صار الكتف الذي حمله إلى فضائه الأجمل، الوطن الساعد الذي وسد عليه رأسه المجلل بالفخر والعز والإكبار.. جاش قلب الوطن وأجهش، لكن السعادة كانت حاضرة، والامتنان كان يثب إلى الذاكرة كأنه الجواد الجامح.. لم تبك أم الشهيد ولا أرملته، لم تبك طفلته التي طوقت ذراعيها الصغيرتين عنق المحب الكبير، قالت أبي ذهب شهيداً، سار عند الله، هناك في الجنة، والأم الثكلى خنساء ونسيبة، قالت الحمد لله الذي شرفني باستشهاده لأنه شرف الوطن وأعلى كلمته عندما ضحى بشبابه من أجل قضية عادلة ضد عدو ظالم.. الزوجة وضعت الصورة على الصدر، فالتقت الابتسامة مع خفقات القلب المكلوم، هنا طفرت دمعة مشفوعة بالحمد والشكر ثم الاستغفار، الوطن يستحق أكثر من ذلك، الوطن يبقى ونحن الصد والسد، نحن البعد والحد، نحن الجند والأسد، نحن عصاه التي لا تعصاه، لأنه الوطن ولأنه الزمن الذي يمضي في دمائنا نهراً فراتاً، عذباً مستعذباً.
الوطن ولا سواه، النشيد المرتفع عند ساريات الفؤاد، الموال الذي يترعرع فوق موجة الرأس، الروح المتألقة تفضي إلى حياة أخرى أجمل وأنبل وأكثر أصالة، الوطن والشهيد حدان فاصلان، ومفصليان يفصلان ما بين الحقيقة والخيال.. في خيالنا شهيد يرتل أنشودة الزمن، وفي الحقيقة وطن أنجب رجالاً ما توانوا وما تهاونوا في تحقيق طموح القيادة، لأنهم الأبناء البررة، لأنهم الحقيقة المستمرة، لأنهم نفرة الروح عندما تنزع إلى تقديم واجب الوجود لأجل وجود يجود بجيد العطاء، وأجود ما تجود به النفس الزكية.