علي أبو الريش
في رمضان تفر النجوم من قسوة المصابيح الحارسة لصياح الديوك الصغيرة، وهي مواظبة على المتابعة الحثيثة لشاشات التلفاز، حتى مطلع الشمس..
أشياء كثيرة، وصغيرة تغزو الشهر تحول أيامه إلى ضجيج لا يغادر الليل ولا يبرح في النهار، لأن الصغار فروا من قسورة، المدارس والكبار أخذوا مفتاح الراحة، واستراحوا إلى التثاؤب، وغسل الشفاة بمرارة العطش اليومي..
في هذا الشهر الكريم عادات تسبح في أفنية البيوت وقيم جديدة تتطاير مثل فراشات فرت من لهيب يومي، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن أيام رمضان هي أحلى الأيام لأنها أيام تلبس حرير الصيام وترتدي قماشة شفافة أشف من رقائق الخبز المرشوش بالسمن البلدي، أيام رمضان مثل غزالات وردت ماء النهر، تبحث عن قطرات على الضفاف عيونها معلقة في السماء ترنو إلى شمس المقيظ، في انتظار حلول المساء، كي تهدأ وتعود إلى أوكار وقت المغيب..
في رمضان جزالة في العطاء وهديل مشاعر تترقرق مثل أطباق المهلبية الساخنة مشاعر الناس عند غروب الشمس، وساعة رفع الأذان تبدو مستنفدة كل الطاقة مستدعية القوة الكامنة لاجتماعات عائلية بهيجة وابتسامات تعلو الوجوه مثل طيور ترفرف بأجنحة السعادة عندما تحط الأطباق على سفرة الإفطار، وعندما تطارد العيون دخان الأواني وصواني الثريد.
في رمضان شحنات الحب تزخر بالدفء وعواطف الصغار تبدو مثل مدافئ مطفأة للتو محاطة بدخان الأنفاس الحارة..
في رمضان تأخذك الأحلام، إلى زمان وزمان لا يعود لكنه يرسل إشعاعاته المبهرة، يسلبك بكل ما أوتي من قوة وتصير أنت كطائرة ورقية تتمايل على الهبوط على الأرض، لكن هواء الماضي وهواه، يأخذانك إلى حيث يسكن الفضاء البعيد، تتذكر أشياءك الصغيرة والقديمة تتذكر الذين غابوا تتذكر الذين حضروا يوم كانوا مثل أغصان اللوز، تتذكر المسافة التي كنت تقطعها من باب المسجد حتى سفرة الإفطار، وقبل الأذان، وقبل أن تسمع صوت المنادي حي على الصلاة كانت مثل صرخة وجودية تدعوك لأن تتجلى في مسائل، وتحضر مع العائلة، وسط البسملة والحمد لله، وسط وعاء الوالدين، وشكرهما على نعيم العيش رغم بساطته وندرة ألوان وأصناف الطعام.. نتذكر القناعات التي لا شبيه لها في أيامك الراهنة.