علي أبو الريش
عندما يأتي شهر رمضان المبارك تشعر أنك في حضرة كائن أليف جاء من مكان بعيد، فاتحاً الذراعين محيياً مستقبليه بقلب وافر الحب والمودة، تشعر أنك محاط بقلادة منقوش عليها، الحب أولاً وقبل كل شيء، فلا تملك إلا أن تغض الطرف عن جل مشاعرك ومشاغلك، وتلتفت إلى هذا الزائر الكريم، تقابله بقلب مفعم بأحاسيس ربما لم تكن متوفرة في سابق الأيام، وتمسك بخيوط الساعات، عند مساء تحتشد فيه ذكريات تأخذك إلى حنين وجودي غريب ومهيب، ورهيب، تأخذك إلى تلك الأزقة التي مررت بها ومشيت على رملها، منتعلاً الرمل البارد، تبحث عن صديق، أو جار مرّ من هناك، كان يتكئ على عكازه، ويهش الحصى عن قدميه.
في ذلك الزمن النبيل لم تزل رائحة البخور المسائي وقبل أذان المغرب، تعانق الأنف، تتوغل في أحشاء زمنك وزمن الذين أحببتهم، وعشقت فيهم عطر المساءات الهامسة، وأنفاس الشمس قبل الغروب وقبل أن تطوي خيوطها ذاهبة إلى مكان آخر.
رمضان، اسم رجل واسم شهر والأمر سيان، لا فرق، المهم أنك في هذه الأيام، تتعقد الذكريات، وتمضي في طي الخيوط الدقيقة مثل خيوط الصيد تحاول أن تصطاد ذاتك الذاهبة بعيداً تحاول أن تجلب من قاع الأيام عذوبة الماضي، ورهافة القلوب التي أنجبت نبضات قلم، توجد اليوم، ولكن.. ولكن لا يسع الإنسان إلا أن يستدعي ذلك القائد في الأعماق، ويستدرج صورة الحبيبة، التي طرقت باب المنزل في ذات مساء، حاملة بين يديها طبق الهريس، مدهوناً ببريق عينيها، وهي تطوف كأنها جناح فراشة غضة تاقت لأن تهفهف على وردة الحياة، وتمنحها الحيوية.. تتذكر كل شيء، وتتقصى حقيقة هذا الشهر الذي كان يدثر الليالي الملاح، بشرشف النجوم الطالعة، مثل مصابيح أزلية، لا تطفئ أنوارها، طالما بقيت العيون محملقة في انتظار وقت «السحور».. تتذكر وأنت مثل موجة البحر، الساعية لاستدراج السواحل كي ترفع النشيد الكوني عالياً.. «قم يا نايم.. صح النوم» تتذكر أحلامك الصغيرة، قبل الإفطار، قبل أول رشفة ماء، أو لقمة تعيد إلى الشفتين بللها.