علي ابو الريش
تحت المطر، أنشودة تحدث على الأرض، تغريدة فوق الأغصان، وأغنيات كثر تملأ شفة الغيمة، مبعثها نجمة حارت في البصيص من بين شرشف السحابات الداكنة.. تحت المطر، مسافة ما بين القطرة والقطرة، وحلم التراب أن يتم الزخ عبر وسائط الماء والهواء لأن قلب الطير أرهف من ورقة التوت، لأن هامة الشجر أعلى من عرش النجوم، عندما يهطل المطر ويصفق العصفور، نشوان، والأرض هي الأرض سجادة تفتل بالغيث، وتلون حريرها، بالبريق القادم من السماء.
تحت المطر، سفر الرمل في محيط القافية عندها تكون القطرات موزونة وبحرها الانتظار الطويل، للرمل، والمقل، وأحلام ودعوات ورسائل بوح بُحَّ بها الصوت حتى صار الزمن أشبه بنخلة غارقة في النشيد، من أجل بيت القصيد من أجل مطر يأتي ويزيد ويصير صياغة الوقت وتشكيل اللوحة من جديد من أجل أن ترقص الزهرة، عند تلة أو في حقل أو حتى في فناء القلب.
تحت المطر تسكب الغيمة رضابها، وتحيي الأرض بخضابها، ويصير الكون مفتاحاً للفرح يصير الزمن مطرحاً للعشب القشيب، وأيام تسرج خيول الثمرات في ربوع الأرواح، المستيقظة فجراً تستدعي الرحلة الأبدية إلى محاريب الوجود، أرواح الناس مثل مخبأ المعطف الشتوي يطوي جسد الحياة، ويلف لفيف الشرايين، لعلها تتدفأ في زمن البرد الصحراوي، في زمن تبدو الغيمة مثل نجمة، العيون ترقبها والأفئدة تتربص بها والأرض تغرد أجنحة الود، وتغزل خيوط الورد مرتوية بالماء والسُهد.. تحت المطر كل الأشياء تزدهر كل الأشياء تمطر وتزخر بابتسامة مثل شامة، على خد أو وجنة كل الأشياء تصير بالارتواء سريراً، منقط بومضات القطن، بلمظات الشجن، كل الأشياء، مسكوبة كأنها الزمن على خاصرة الغصن.
تحت المطر، تزهو الأحلام، وتضيء الفكرة كأنها الجمرة في أحشاء موقد الأيام، كل شيء يمضي من الوريد إلى الوريد ليسافر، لكنه لا يغادر، لأن المطر عندما تصحو خيالاته تصير مثل الفلسفة، غارفة من معين اللا منتهي، عازفة لحن الخلود والأبدي، كل الأشياء تسقط من فوق لكنها لا تنكسر، بل تظل تستفسر عن حلم المجيء عن قطرة نتلوها قطرة تصير القطرتان زهرتين، ورائحة تعطر وتبخر، وتسطر للأيام كلمة ثم جملة ثم عبارة، ثم استنارة ثم رحلة تفقدية في فسيفساء الوجود ثم وقفة تأمل بلون الماء ودفئه وبريقه وأناقة الانسكاب على جسد الأرض، فتنمو في الكون سنابل وفصائل وجدائل، ومواويل تشدو لها الموجة عند سواحل القلوب، عند شطآن، ما ترعرعت محاراتها لولا المطر، ولولا تهجي الغيمة حروف الدهر.
تحت المطر، تفوق الزمان والمكان والإنسان والألحان، والألوان والأغصان، والوجدان، يفوق كل من في عينيه شظف وأشجان يفوق التاريخ، ليعيد قراءة ما تكتبه السحابة الماطرة على صفحة الأرض.