بقلم : علي أبو الريش
في جنيف العاصمة الوردية المقاهي تنتشر مثل محلات الزينة، هناك على الأرصفة يرتفع الدخان سحابات رمادية برائحة التبغ، تسمع نقاشات حامية تدور رحاها بلهجات عربية مختلفة ومتنوعة ولا يختلف الأمر عن حوارات الاتجاه المعاكس، يخوض الأفراد هناك في مختلف القضايا والقصص بدءاً من الرياضة وانتهاء بالعلاقات العاطفية، ولكن ما يلفت النظر أن المناضد التي تجمع الإخوة العرب تهتز كراسيها وترتج الأرض من تحتها بفعل رنين الأصوات وضجيج الحناجر ونثار الزبد المتدفق من الأفواه المرتجعة، بينما عندما تمر على مقاعد يتحدث أصحابها بلغة غير العربية، فلا تسمع غير الهمس مشفوعاً بابتسامات شفيفة وهمهمات تغيب مع الفراغ.
في المقاهي مشردون وعبثيون وعدميون ومتسولون ومتسللون ومتوسلون وعاطلون ترى في وجوههم بيئات قاحلة، مكتئبة، شاحبة، وعيون تنتظر الغيث والمغيث، وعندما يقترب السائح الخليجي من هذه المناضد تبحلق العيون وتزم الشفاه على أقلام الأراجيل ويرتفع الدخان بكثافة تمر وتتبعك الرائحة، تتبعك بعض المشاعر الترابية الغامضة وتمضي أنت والأسئلة ترافقك إلى حيث تكون لماذا هؤلاء هنا، متسكعون، غامضون، غاضبون، عابسون، مشوهون، تكتسحهم غمامة مجردة من النث والبث.
الجغرافيا العربية التي هالها ربيع أشبه بالصقيع فانكسرت نفوس وداخت رؤوس وتشوهت طقوس وصار الإنسان المشرد بوجه بلا ملامح ولغة مشوبة بزبد البحر وفطر الأرض، وغبار وسعار ودوار، صار الإنسان الذي هلل وكبر لذات الربيع المشؤوم، أشبه بقشة على ظهر موجة صار يلاحق مصيره، فلا يقبض إلا على الريح العاتية، لذلك نجده هناك في المقاهي والنواصي والأرصفة، يبحث عن ذات بلا هوية، يبحث عن هوية صارت طائرة مخطوفة، يبحث عن وطن صار يلفظ أنفاساً أخيرة، يسأل عن صديق طفولة فيأتيه النبأ بأنه قضى نحبه إثر غارة جوية هدمت ودمرت، يسأل عن أم فقيل له إنها سبيت لدى داعش، يسأل عن تاريخ فلا يجد غير الأكاذيب ومجلدات في أرفف المكتبات بنت عليها العنكبوت بيوتاً من غبار المراحل المبتورة، ويسأل عن ماذا، فكل الأشياء لبست أثواب الحداد واقتعدت كرسياً خشبياً، في مقهى قديم وصارت تصرخ وتزعق وتفتي في كل الأشياء، ولا تستفتي القلب لأنه أصبح مضغة عجفاء رجفاء لا طاقة لها للحب، لا قدرة لها على بناء علاقة سوية بالواقع فلم يبق أمام هذا الكائن الشائه غير الصراخ، لعل الفراغ يتبنى موقفاً إيجابياً غير العدم والعبثية.. المقاهي التي تضم العرب هناك، تبدو مثل موائد لا تضم غير مخلفات التاريخ وبقايا بشر نسيهم الزمن فأضحوا بلا عمر ولا اسم ولا هوية والوطن في غياهب النسيان.. يا الله ما أفظع هذا الزمن.
Ali.AbuAlReesh@alIttihad.ae