بقلم : علي أبو الريش
في سلم الطائرة، وقبل ولوج الباب المفتوح تستقبلك وجوه أشبه بسحابة ممطرة تنث عليك ابتسامات مثل هفهفة أجنحة الفراشات الملونة بالفرح، وعلى الكرسي المقابل لنافذة زجاجية محكمة الإغلاق، تطل أنت المسافر إلى فضاءات واسعة، هنا في هذا المكان، الأشبه بالمضيق تنفتح الذاكرة على آخرها، وتفتح أنت دفتر الخيالات التي تعدو كما هي، الجياد، ويغرد في رأسك طائر الوطن، وتتذكر أغنية للمرحوم طلال مداح «في سلم الطائرة» وما بين نخلة وبيت ترى وجهاً ما تمنيت مفارقته، ترى عيوناً تشع ببريق أزلي، ترى شفة مثل ورقة عباد الشمس تطرق أبواب ذاكرتك تقول لك، يا هذا أنت المسافر وأنا هنا ألملم بعض التفاصيل في الأيام الخوالي، وأحصد ثمار أيام مضت، فكيف لك أن تمضي لمسافات بعيداً عن هذا التراب وعن تلك النخلة، الواقفة عند باب المنزل تحرس طيورك التي أودعتها للخالق الباري ومعها تركت حبات قمح لم تزل تنثر رائحتها في فناء المنزل وتخفق عجلات الطائر العملاق ويرتفع الضجيج والناس من حولك يرتبون أشياءهم ويسندون ظهورهم على الأرائك في انتظار ما يصدر عن طاقم الطائرة من تعليمات هي مجرد ضوابط قد لا يعنيك بقدر ما تفكر في كيف.. ومتى.. وماذا يحصل هناك في دار الآخرين، والوطن لم يزل يشاغبك ويرصد وعيك، يرقب كيف ستنام في أحشاء الطائر الميمون والوطن مستيقظ حتى نهاية مطاف العمر والأعمار كلها، الوطن يرفع كفاً بحجم علم بلادي، لونه الأبيض أشد نصوعاً من ثلوج أوروبا، والأخضر يانع بمساحة الأرض السخية.. يحلق النورس الأسطوري وتحلق أنت بأفكار وأسبار وأخبار وأنهار من يقظة تلازمك حيث وجهت وجهك، فلا تجد غير الحبيبة التي غادرتها وعاهدتها أنت بأنك إن كنت لا تسكنها الآن فهي تستوطنك، تستولي على مهجتك وتستقر هنا في الأعماق والأشواق أشجار سامقة تهز جذوعها توقاً وعبقاً ونسقاً كونياً لا تخفي ظلاله سحابات صرت أنت الآن تسبح فوقها.
على متن سفينة تخب، وتجب، وتكب، وتدب، وتصب، وكلما مر عليك طائر من طيور الطاقم، ألفت المكان وحلمت بوجه الحبيبة التي زرعت في صدرك نخلة أعلى من جبال الألب، وأكثر اخضراراً وأعظم شموخاً وأعرق رسوخاً.. ولا يقضي سكونك إلا شخير الذين ينامون من غير ذاكرة، الذين يغيبون من غير حضور فتحاول أن تتجاهل الكون كله لتحضر أنت فقط ومعك الحبيبة ترفع علماً شيمته شيمة البواسل الذين أعطوه من دمائهم عطر البقاء والنقاء والصفاء والولاء والانتماء والوفاء، وصد العدوان والاعتداء.. إنها الحبيبة النجيبة، في أحشائها الدر كامن وفي تاريخها نصوع الموجة.