بقلم - علي ابو الريش
هناك على مهد الخليج العربي، تغفو المدينة الساهرة على ترتيب صور، ووجوه، كانت لها صولة وجولة في المكان والزمان، وكانت في المهج تسكن لوعة لذيذة.
تمر في السوق القديم، في المدينة المبلّلة بريق التاريخ العريق، «رأس الخيمة» هي المدينة المشاغبة، ولم تزل تخصب كفوف نسائها بحنّاء الأمل، وحنين إلى عطر، وقماشة «المريسي»، وبخور هندي يرسف برائحة «الساري» ورهافة المشاعر.
هنا في هذا السوق، كان الرجل النبيل حسن الشامي، والمصلي، وأسد، والمرباخي، رجال من ذلك الزمن الجميل، سكنوا في وجدان السوق، كما سكنت اشراقة وجوههم الصباحية في مهج الذين يعبرون جدول الملح، ليبتاعوا حباة الحياة، ويبيعوا حطب المواقد.
كانت الركاب تحط رحالها بعد تعب، والسعاة ينشفون عرق الرحلات، بأطراف المعاصم، وينبرون في المكان خلايا نحل تذوب حشرجاتها في غضون أسئلة الوجود.
عندما تمر اليوم، عبر الممرات الضيقة، تشعر أن كل شيء قد تخلى عن شفافية فضاءاته، وأن كل شيء خبّأ أحلامه الطفولية في تلافيف الزمن، حيث غابت صبابة التلاقي عند مقل الصباح، وتلاشى بريق العيون التي كانت تضيء أسئلة اليافعة، وتلك البدوية النجيبة، حمّالة العشب، والحطب، راعية الكون، وربّة المكان، وسليلة الجبال الشم، كانت لها في السوق، مكانة، وجذل، وجدل، وبذل، كان لها حلم الطيور، مغسولاً بعذب السجايا، ورهافة السليقة، وكان باعة السوق هم ربابنة السفن، وهم الأشرعة، وهم صواري الحلقة التجارية، وهم كل ذلك وأزيد.
اليوم تغفو تلك الدكاكين على سرير الصمت، ولا يبدو في المكان سوى رائحة قديمة، لغليون أعجف، وبعض مسامير معقوفة على الزمن، وقطنة المراكب تبرز في المرحلة، وكأنها شاش قديم لجرح لم يضمد ألمه بعد.
اليوم يبدو السوق، وكأنه قارب تقاعس عن خوض رمال البحر، فسجى على تراب الذاكرة، كأحفورة بهت لونها، وصدأ حديدها، وتخلى الوهج عن بريقه.
اليوم تمر من هناك وكأنك تحثو الرمل على وجهك، وتمضي مصفوداً بمشهد جنائزي رهيب، ومهيب، يخيب فيك نبرة الكلمات، وتصير أنت ترفع أسئلتك الغامضة، وكأنها هلاميّة تطير في فضاء قاتم، وتصير أنت كمن ينبش في قبر عن لقية ضائعة في تجاويف شواهد أبلاها الزمن، اليوم أنت تقف في السوق، تجرحك الغربة بسكين الحسرة، وكل ما فيك من جوارح يند بصهيل الخيول المتقاعسة، وأبل مراحل ما بعد الفراغ.