بقلم - علي ابو الريش
أنت في كل صباح، تصحو من نومك، وتفرك جفنيك، وتعتدل في جلستك، ثم تمضي لطرد النوم من عينيك، عبر تذكر ما حفظته قبل أن تغمض عينيك. ربما تكون تحت شرشف الابتسامة الناعمة تختالك صورة ما، تمسح على وجنتيك، وتتلمس جبينك مثل جناح فراشك، تشعر أنت بالبهجة، ويلفك الحبور، ويطويك السرور.
في هذه اللحظة وقبل الضجيج، أنت في قارب بحري يتهادى بين موجات الصحو، وزبد الغفلة الأخيرة. أنت لا تحلم، وإنما تستدعي خيوطاً مرت من هنا، مرت من قماشة القلب، وشيدت فرحك المنيع، أو هكذا كما تتصور، أنت بعد الصحو، تبدو مثل عصفور يمهد جناحيه للطيران ويمسد أطراف الحديث الداخلي بتغريدة، ربما هي الدفقة الأولى إلى التحليق، والرفرفة.
قبل الضجيج هناك في الثنايا وريقات تهفهف، على نغم الحفيف فوق أغصان الشجر، وهناك في غرفة العقل تتحرك الجملة الفعلية، لتكون أنت الفاعل، وأحياناً أنت المفعول به.
قبل الضجيج، هناك حشر، ونشر، يتهيأ للنهوض من السبات، ويقول لك هيا ننشر الشراع فالرحلة طويلة، وممتدة، وربما تكون الموجة فيها أعلى من جبال رأس الخيمة، وربما تكون الريح تصفر في الأذهان مثل صرخة المتألم من جرح قديم. وأنت الآن في الشارع، في قلب الصدام بين الأرواح، وتباين الوجوه، وتعارض الاتجاهات، يعتريك خوف ما، لا تدري مصدره، ولا تعرف كنهه، إنك فقط بين جناحي الرجفة، إنك في لقطة سينمائية لو حاول أمهر الفنانين أن يلتقطها لفشل، لأن كاميرا العقل لها عبقرية الفطرة، ولك أنت رغبة العاشق وهو يتقصى وجه الحبيبة، ويقرأ التفاصيل في تلافيف المحيا.
أنت الآن في مهابة الضجيج اللذيذ، أنت في اللحظة المعينة، لا تجدي معك أقراص التسكين، لأنك قد دخلت مضمار سباق الأيام، بقلب متئد، متحد مع النهار، بضوء يأتيه من خارج زمنك اليومي، ضوء يأتي من ذاكرة تحتلب نياقها، ولا تدع الريح تذهب بالقطرات.
أنت في الضجيج الآن، وفي فرحك اليومي، تبحث عن مكان لك بين الزحام، وزمامك مفتوح إلى أقصى درجات الأمل، أنت في الضجيج، وفي عجيج النهار، وقد زال لحافك، وانكشف النطاق عن رغبة عارمة تتدفق فيك مثل شلال النهر.
أنت تريد أن تصبح موظفاً مرموقاً، ينظر إليه المدير بعين تنطق بالتقدير والاحترام، أنت تفعل كل ما في وسعك أن تفعله، ولا يهم إن كنت دهست قطة في الطريق أو تجاوزت الإشارة الحمراء، وزهقت روحاً بريئة، أو جرحت مشاعر إنسان لأنك أرعبته لمجرد أنك خطفت منه الطريق، أو انحرفت تجاهه خطأ. أنت في الضجيج كائن آخر، ولست أنت كما كنت قبل الضجيج.