بقلم - علي ابو الريش
عندما تجلس في مكان عام، تمر عليك وجوه كالمرايا، تلمع بالفرح، تهديك ابتسامتها معطرة بالود، وتشعر وكأنها تريد أن تذهب بك إلى عالم مزروع بعشب الأمل، فتنسى أنت بعض التفاصيل التي مرت عليك مسبقاً فأرهقتك. تشعرك وكأنك تطهرت من ذنب الحزن الوجودي الذي يداهمك فيما قبل، وما بعد. ووجوه مثل الأخشاب، تصفعك بخشونة فيصيبك الدوار، ثم الغثيان، وتشعر أن الدنيا أضيق من ثقب إبرة.
هذه الوجوه تشعر وكأنها قادمة من باطن غابة موحشة، تشعر وكأنها فرائس مطاردة من قبل وحوش ضارية، فترتفع درجة سيئات الوجود، وتتخيل أن التضاريس أصبحت مثل أنياب ذئاب مكشرة، وناتئة، وصفراء من غير براءة. وجوه كالمرايا، تفترش حرير الوسامة، وتغطي عينيك بمخمل الدفء، تشعر ساعتها، أنك تولد من جديد، وأنك في أول حلم طفولي يأخذك إلى مساحات واسعة من البراءة، والعفوية، والشفافية، يأخذك إلى عالم لم يلوث بالأفكار الباهتة، يأخذك إلى مرايا نصع بالصور الناصعة، يأخذك إلى أحضان أمومة تشعر أنك بأمس الحاجة إلى فيافيها، وظلها، وظليلها، تشعر أنك تفتح عينيك على قصيدة شعرية من زمان إس. ت. إليوت، وغيره من الشعراء الذين حلموا بعالم لا تشوبه شائبة الغباب ولا تعتريه وهدة الألم الوجودي.
وجوه كالمرايا، تعيد لك روحك التي سلبتها الكواكب البعيدة عن مدى البصر، تعيدك إلى أحلام الطير وهو يسرد قصة الأعشاش التي لم يصبها وهن البقاء بلا حب. وجوه كالمرايا، تعكس صورتك الحقيقية قبل أن تغشيها غاشية التحول من الأنا المزدحمة بنشارة الخشب، إلى جبلتك الأولى أنت تمشي على الأرض هوناً، وتعرف أنك من صلب هذه الأرض، ومن ترائبها، ومن رملها وطينها.
وجوه كالمرايا، تفوح برائحة الناس الطيبين، وهم يرفلون بعطر النفوس الصافية، والمتعافية من درن الفوقية والتورم الذاتي. وجوه كالأخشاب، تصيبك بالعفن، والدرن، والحزن، ولا ترحم إنسانيتك.
وجوه كالأخشاب، جامدة، هامدة، لا حياة فيها، ولا رمق، إنها تطفر بالحقن، والنزق، والمزق،
إنها تمر من أمامك وكأنها ريح صرصر، كأنها الزمهرير في عتوها، ونفورها. وجوه كالأخشاب، تمضي من أمامك، تخفق بسحنات مثل سحنة الغيوم الصيفية، مثل خرق بالية، مثل جيف نهشتها مناقير نسور جائرة.
وجوه كالأخشاب تستعيذ منها، كلما مرت وأدبرت، واختفت، إلى غير رجعة. وجوه كالأخشاب تتسرب من حولك، كأنها الماء الضحل وكأنها الزمن المحفوف بالجراد، وخراب المراحل. وجوه كالمرايا تتمنى لو أنها تعيش أكثر من عمرها ليبقى الزمن مورداً بأزاهير النقاء. وجوه كالمرايا، تتمنى أن تعمر، ليعمر الكون بوجودها ويزدهر بابتسامتها.