بقلم - علي ابو الريش
بعد المطر تبدو مرآة الشمس صافية، ويبدو وجه السماء بلا نمش الغيمة، ولا تجاعيد البرق، والأرض قد لبست حلة البلل، وفي وجوه الناس ترى نعومة الأحلام، وشفافية الابتسامة، وترى في الوجود ميلاد فرحة، طفولية، عفوية وأنت في الوجود طائر يرسم بهجته، رفرفة على وجنات الشجر، أنت المنهمك على تلاوة التفاصيل، في الأشياء، والنساء، أنت العاكف على قراءة الجملة الوجودية، بالتفصيل، والتحليل، أنت المتسرب في الحياة تغدقك الأنسام المرهفة بصور تأتيك من مكان بعيد، وناء، تأتيك المشاهد محملة باللواعج، وفتنة الأيام الماضية، تستدعي الذاكرة، فتجيء مكللة بهذا وذاك، وكل ذلك من فحوى ما جرى وأثر، وأكثر فيك الاندماج في الوجود.
فالسدرة التي كانت تملأ وجدانك، والأعشاش التي سكنت وجدان الشجرة، وصياح الصغار، وهي مغفورة الأفواه وأنت المتسرب بين الأغصان تبحث عن نبقة اللذة، يهاجمك صوت مشروخ، مطالباً إياك أن لا تعرقل فرح الأغصان بالعصافير الصغيرة، وألا تمزق الأوراق. كنت تسهب في التشابك مع الأشواك، بل كنت تشعر بلذة الألم، وأنت تقطف الثمرات من جسد الشجرة، وكنت تشعر بآهة ما تأتيك من مكان قريب، ولكنك لم تصغ لشيء من ذلك وكانت أنفاسك المتقطعة، تملأ المكان، ولا حيّز صغيراً، يسمح لسماعك تألم الشجرة بل على العكس تماماً، كنت تستلذ وأنت تخفق بين الكثافة، ويداك تحلبان الأغصان كضروع مدت ألسنة الحياة.
بعد المطر يفتح الوجود كتاباً، كلماته ثمرات، ورعده زقزقة، وبرقة بياض الأجنحة في الرحابة السماوية، وأنت في حضرة التأمل، تبدو كاهناً متعبداً، تبدو العابد المتهجد، والأرض تحت قدميك، تحيي أمسية شعرية على لسان الطير، والشجر، تبدو أنت بين الحضور، الربابة والوتر، تبدو الملحن وبيت الشعر، تبدو أنت النبرة والنغم، تبدو في الذروة القصوى من تداخل النغمات، وانسجام الحلم، تبدو الموجة التي تغسل السواحل ساعة صفاء البحر.
بعد المطر ينتابك شعور غريب، وأنت تجلي عن عينيك غشاوة الغيمة، تشعر بلهفة إلى الشمس، وتشعر كذلك بحزن، لا تعلم مصدره، ولكنك تخمن، ربما جاء، من ذلك المكان ، ربما جاء من منطقة في الذاكرة، لا تزال تحفظ الود مع الأشياء التي غادرتك.