بقلم : علي أبو الريش
أن نهتم بالمتاحف، فإننا نعتني بذاكرة المكان، والتي هي من صنع الإنسان.. لا يمكن أن تنهض أمّة وترقى وتتطور من دون ذاكرة تخبئ المخزون الثقافي في مكان آمن لا يمسه سوء، ولا يخدشه ظفر. «لتوثيق المسيرة»، حملة من أجل أن تبقى المسيرة المظفرة راسخة شامخة، مستمرة في إشعاعاتها وروعتها ورونقها وسماتها التي تجلّت بالإبداع، في كل ميدان وصعيد.
الاهتمام بذاكرة الوطن مسؤولية وطنية جماعية تقع على عاتق كل إنسان، بدءاً من تلميذ المدرسة، وانتهاءً بالموظف والعامل، كل إنسان لديه القدرة على المشاركة طالما توافرت الإرادة وتوافر الوعي بأهمية الحفاظ على الإرث الجميل، لبلد له من الآثار والمآثر ما يستوجب علينا جميعاً أن نكون على أهبة الاستعداد لتلبية نداء القيادة وتحقيق الأمل، الذي يهم كل إنسان على هذه الأرض، كما يهم الإنسانية في كل مكان.
فالمآثر الحضارية ليست ملك شخص ولا بلد، وإنما هي إنجاز حضاري يرتبط بوجدان الإنسان في كل مكان من الأرض، وحضارة الشعوب ورقيها مقياسهما مدى قدرة أي شعب على الحفاظ على تراثه وحمايته من الزوال والاندثار. الذين يحفظون تراثهم هم يحمون وجدانهم من الشروخ، ومن القروح، ومن الضياع. الذين يعتنون بتراثهم، إنما هم يطوقون جهداً إنسانياً مرت عليه قرون بقلادات من ذهب، ويضعونه عند النحر فوق الصدر، ويتوجونه بالحب والوفاء، فأن تحمي الشعوب تراثها، فإنها تعلن للضمير الإنساني أن الحب عندما يصبح شجرة وارفة، فإنه يضع حداً لانهيار الإنسان وفوات الزمن على أخلاقه.
والزمن لا يحترم الذاكرة المثقوبة ولا يقدر الضمير الغائب، ولا يتقارب مع العقل مقصوص الأجنحة، ولا يمكن للبشرية أن تصنع غدها من دون جسر ممدود حتى أول الزمن، يقود إلى مراحل ما بعد، وإلى زمن يغتسل في المياه الصافية، ويبلل ريقه بعذوبة الماضي.
لا أحد يستطيع أن يبدأ حضارة ذات بريق راسخ من الصفر، فلا بد من درجات في المبنى الواحد تقودك إلى أعلى السطح كي ترى ما حولك، وكي تستطلع الأفق بعين لا تغشاها غاشية النسيان، وعقل لا تردعه فاشية الغثيان.
الذاكرة الحية هي التي تأخذ من الطيب، وتعطي من الطيب، ولا تنخدع بسرعة القطار الفائقة، وتعتقد أنه نسي ركابه في محطة سابقة، بل إن الزمن يمشي بخطواتٍ، ما قبلها يدل على ما بعدها، وهذا هو الأثر الطيب، هذا الوثب الحضاري الذي يضع الذاكرة البشرية في محتواها الصحيح، ويضع الإنسان في قلب الذاكرة، لكونها الحاضنة، والكنز الذي منه ينهل جيل مما قدمه الجيل الذي سبقه، ولا يمكن للحياة أن تستمر من دون سلسلة زمنية متوجة بفعل مَن سبق، لأجل أن يستكمل الخَلَف مسيرة حياة لا يطفئها إلا ظلام الذاكرة المخدوشة والمفروشة بسجادة من غبار التجاهل والتكاسل.
الذين يحفظون ذاكرتهم، هم الذين يضيئون السماء بالنجوم، وهم الذين يغسلون الأرض بماء الغيوم، هؤلاء هم الذين يُنطقون التاريخ ويحركون زعانف الحياة كي تستمر ويستمر العطاء الإنساني حياً نابضاً.