بقلم - علي ابو الريش
كما أن الذاكرة مصرف مركزي، لتاريخ علاقتنا مع الحياة، فهي المخزون الذي منه نغرف كل ما يمت بصلة لحياتنا، وثقافتنا، مفاهيمنا، وقيمنا، ومبادئنا وأحلامنا، وأمنياتنا، وتطلعاتنا، وطموحاتنا، وحزننا، وفرحنا، وإحساسنا بجمال الأشياء، وقبحها، وخوفنا، وجرأتنا، وإقدامنا، وإحجامنا، وغموضنا، ووضوحنا وضحكنا، وفرحنا، وصيامنا، وقيامنا، ونجاحنا، وفشلنا.
كل ذلك، يحدث بفعل الذاكرة، ولكن تبقى الذاكرة هي بيت الداء، الذي يحرفنا عن الحقيقة، ويأخذنا بعيداً عن منازل الصواب، ويدخلنا في غرف الأخطاء المريعة، ويسحقنا، ويمحقنا ويردينا فرائس للضواري، والوحوش، ويجعل حقولنا الفيحاء، غابات موحشة ويحول مرابعنا إلى صحارى قاحلة، ويبيد أعشابنا، ويودي بمآثرنا وأحلامنا ويسكب على حطبنا زيت النار، ويسوم حياتنا سوء العذاب، ويقضي على كل بارقة أمل في عيوننا، ويجهض خطواتنا، ويمنع تدفقنا، ويصد شلالاتنا، ويسد نوافذنا، ويعكر صفونا، ويكدر خواطرنا، ويشيع الغبار في حياضنا، وينشر النفايات في أزقتنا، ويبعث الخوف في أفئدتنا، ويبث الخرافة في عقولنا، وينفث السموم في نفوسنا، ويطرد الطمأنينة من قلوبنا، ويسكن الشك، والريبة في حنايانا، ويسقط علينا كسف الكآبة، ويحيطنا بالوهم، والغم، والسقم، ويطوق أعناقنا بأغلال التردد، والتصهد، والتبدد، والتقدد، والتذمر، والتبرم، والإدانة والمهانة، ويدخلنا في نفق العتمة، والغمة، ولا يدع لنا فرجة، إلا ويظهر لنا فيها صورة مشوهة من صور تاريخنا الشخصي، والجماعي، ولا يسكن ريحاً، ولا يهدئ غضباً، ويملأ وعاءنا ببقايا فضلات الأيام السابقة، ويترك في مواقدنا رماد ليال فائتة، ويمكث في وعينا مثل الحشرات النافقة، وتند منه روائح نتنة، تجعلنا في حالة غثيان، ودوار، لا نستطيع على إثرها تحديد أماكن نزلنا، يجعلنا في حالة اضطراب، واحتراب، وخراب، يجعلنا نتنفس الصعداء، كلما مرت بنا صورة من صور الحياة، يجعلنا بهوية الكائنات القلقة، وسجية المخلوقات المرتجفة وطوية تهتز مثل سعفة في مهب الريح.
هذه هي الذاكرة، تصبح وبالاً علينا إذا لم ننقها، ونهذبها، ونشذبها، ونرتبها، ونكبح جماح خيولها الهاربة إلى الحفر السوداء.
ذاكرتنا جحيمنا، إذا لم نمنع عنها المياه الملوثة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد