بقلم : علي أبو الريش
نحتاج إلى التنوير، ونحن في صلب الحياة، نحن في منعطف التاريخ الإنساني، والعالم يتقلّب ويتغيَّر، ويتطوَّر، وأحياناً يتراجع، نحتاج إلى التنوير لأنه بداية الحياة، ولأنه ذروة التنفس من هواء نقي، لا تشوبه شائبة، نحتاج إلى التنوير لأنه يعطينا فرصة اللحاق بالقطار السريع، ويمنحنا قوّة التحول من تارة القَبل إلى تارة البعد، وهذا ما يحتاجه الإنسان الذي يريد أن يعيش خارج دائرة التخلف.
نحتاج إلى التنوير لأنه الضوء الكاشف الذي يدلنا على طريق التقدم والازدهار، وليس غير القراءة التي تضع أصابعنا على مواطن الخلل في نفوسنا، فنشعر بالخطر، فنفر هاربين إلى حيث يسكن الأمان.
القراءة وحدها التي تعلمنا كيف نضع الثمرات على الأغصان، وكيف نشعل شمعة في الظلام، وكيف نفهم وشوشة الموجة عند السواحل المبللة بالشوق والحنين إلى عالم بلا خرائط مبهمة.
القراءة وحدها تدلنا على موائل الغزلان، ومرتع الكائنات النبيلة، ومساكن العشب القشيب. القراءة وحدها التي تعيد ترتيب أشيائنا المبعثرة، وتصفف شعر الحياة ليصير جدائل وجداول ومناهل. القراءة تغمرنا بالفرح، وتلون أحلامنا بالبياض. فعندما ترى إنساناً يقرأ فاعلم أنك أمام كائن يخرج من شرنقة التوحد، إلى باحة التعدد، وبالتالي فهو كائن بأرقام زوجية، مزدهرة بالحب والتصالح.
عندما ترى إنساناً يقرأ، فاعلم أنك أمام إنسان يحمل بين يديه مفتاح الخروج من غابة التوحش، إلى بستان الانسجام، عندما ترى إنساناً يقرأ فاعلم أنك في حضرة مولود جديد يخرج إلى العالم بأحلام، وآمال، وأمنيات، ورغبات، ومتطلبات، تعجز عن تلاوتها الموجة، ولا يعجز عن إنجازها العقل.
القراءة، تستولد عقلاً في العقل، تنتج حقلاً في الحقل، تسكب ماءً جديداً في جوف النهر، والقراءة سبَّاقة مستدامة في محيط الفكر تعيد له مملكته، وتحرر معصميه من رواسب، ومصائب، ونواكب.. القراءة قارب نجاة يخرجنا منا ليعيدنا إلينا.
القراءة استتباب بعد استلاب، وإياب بعد ذهاب، وكون جديد يعيد تكوين العناصر، والأواصر، والمفاصل، والفواصل، لتسكب الغيمة رحيقها على أديم الأرض، وتخص النجمة ضوءها لمن استهوته الحياة من دون عرض أو مرض.
القراءة هي القانون الوحيد الذي لا يخل ولا يزل إذا ما استقامت سطوره على عرفان الكلمة الصادقة، والقيمة الشاهقة، والشيمة السامقة.
القراءة، هي المكان الذي تبوح فيه الورود عن سر عطرها، وتفشي الطيور أخبار ما تخبئه البحار من محار، القراءة هي الوعد، والعهد، والمهد، والنهد، والسعد، وهي وإن أتعبت، أشرقت وأسعدت، وأبهرت، وأثمرت، وأشاعت في الأفق، شعاعاً، وفي النسق يراعاً، وطورت أحلاماً، وغيرت أياماً، القراءة لحظة لقاء حميمي مع الآخر.