بقلم : علي أبو الريش
في الصيف الطيور تلوذ إلى الظل حيث الأشجار ترخي رمادها الساخن، والعشب تسترخي تحت رذاذ أشبه بشرشف أبيض شفاف، الإنسان يهجع ويسمع صوت الجسد المتكاسل الناهل من تعبه وسغبه، الذاهب في غسق الأيام المتشظية، ما عدا القلب، هذا النسر المتأهب الواثب إلى الأمام نبضاته خطوات الصحو، دفقاته صيحات اليقظة، رفرفاته هديل، هفهفاته صهيل، تمتماته وشوشة النخيل، همهماته موال الليل الطويل.. القلب في الصيف كأجراس الكنائس يشدو بالرنين ويهفو بالحنين، يطوف في المعالي ويخفق للورى، يتدفق وعياً كونياً، ويطوق الكون بحب الحياة.
القلب في الصيف لا ينام، ولا يبيت ولا يقيل، إنه في الحرقة واللظى يبعث حياً، ويربت على الرمش كي لا تغمض العين، ولا يغفل جفن ولا تغشى مقلة، فالبوصلة تشير إلى ذاك الذي هاج وماج في داخل الصدر ما بين الضلوع عند خاصرة الزمان، يرفع النبضات عالياً، لأن السبات شريعة الأموات، والقلب لا يموت، القلب مثل موجة عندما تطفو على سطح الماء فإنها تجر خلفها موجة أخرى، حياة أخرى، طاقة تبدد فعل التشاؤم، ولسان يبلل ريق لسان، والسواحل هي هذا المدى، هذا الطموح، في بلد، عنوانه حياة لا ينقصها شؤم، ولا يكدرها لؤم، ولا يلون عينها بالأحمر، زحام مراحل ما بين الفصول.
القلب وحده الحارس لأغنيات الصباح القابس بوميض يطارد عتمة الذين اختاروا التقاعس وسيلة لخلاصهم، القلب هذا الكتلة الرحيمة الرابضة عند دفاتر الأسئلة فهو البوح وهو الصرح، هو كل ذلك الذي منح الطير جناحاً كي يغادر مكامن الرواسب والخرائب والنوائب والنواكب، والمذاهب التي أذهبت العقل ومادت بها المقل، وصار الزمان قارباً تضربه الرياح وتثخنه بالجراح فيبدو بلا مرسى ولا شراع.
القلب وحده الذي اعتنق الوجود وجداً ومجداً، وحباً يلون أشجار الحياة بالأخضر اليانع ويزهو بأحلام لا تنضب وأيام لا تنكب ومسافة ما بينه وبين الآخر مزروعة بعشب وحدب وسكب ونجب، القلب وحده يغسل غبار الصيف ويبلل ريقه، برضاب الحب ويعطيه من زمان الأولين صفاء وبهاء ونقاء وولاء وانتماء وفضاء غيماته، هذه الشغاف المجللة بالرهافة.
القلب وحده ناسك لا يخبو ولا يزل لأنه من سلالة النخلة لأنه من نسل الصحراء.. القلب مفتاح العالم إلى السلام.