بقلم - علي ابو الريش
في الصباح الباكر كان يصيخ السمع إلى صوتها الشائخ، كان يبدو صوتها عبر الهاتف، كأنه رنين كائن يختنق في جوف بئر سحيقة. ويتردد صداه في أذنيه موسيقى جنائزية تعبر ضيق القلب، ثم تمر من خلال الدم في جسده، الذي بات عاجزاً عن حمله.
قالت له في مرة: لا تجزع يا بني، إنها فترة عابرة، وسوف تمر، المهم كن يقظاً، ولا تعرض نفسك للمجازفة، وسوف أنتظرك، ولن أموت قبل أن أراك، المهم في الأمر أن يستقر كل منّا في مكانه، وننفذ توصيات الجهات الطبية بحذافيرها، وقد سبق للعالم بأن مرّ بجوائح أكثر خطورة، ونجا الملايين، وانبثقت الحضارة من ثنايا تلك التجارب العصيبة، والإنسان يا بني هو راعي هذا الكون، ويستطيع أن يخرج من بين الدخان، بعلامة بارزة تدل على قوته.
كان الصوت المتهدّج يخرج من حنجرتها مثل حرحرة الأحجار المتدحرجة من علو شاهق، وكان يعلم أن أمه تتحدث بهذه اللغة من باب التحفيز، وقد لمست في محادثاته أنه يمر بفترة عصيّة على التحمّل، وأنه يشعر بتأنيب الضمير كونه لا يستطيع الاقتراب منها لأسباب تخص المرض.
في المساء يتلقى منها مكالمة، تحثّه على الصبر، وتحاول أن تزرع الأمل في قلبه، لأنها تعلم مدى تعلّقه بها، ومقدار الحب الذي يكنّه لها، وقد وقفت الظروف حائلاً دون زيارته لها، ويشعر بالألم عندما يتذكّر الأمسيات التي كانت تجمعه بها مع الأشقاء والشقيقات، وكانت على الرغم من بلوغها الثمانين من العمر، إلا أنها كانت تتمتّع بعافية تجعلها قادرة على القيام بواجبات الضيافة، عندما كان يطل عليها في الإجازة الأسبوعية، وكانت تحتفل بوجوده، وتشعل أضواء البيت، حتى تبدو المصابيح المحيطة بالمنزل، مثل النجوم التي تحتضن قارة تحتفل بمناسبة دينية، وكانت الغرف والأروقة، والصالة الضخمة، تتضمخ برائحة البخور، وفي كل زيارة كان يدهش بتغيير الأواني، وترامس الشاي والقهوة، والفناجين، والكؤوس، وكانت تفخر بحبها للتغيير، ولا تجد ما يمتعها أكثر من عثورها على أجمل أواني الخزف المنقّشة برسومات مبهجة.
وعندما كانت تجلس أمامه وهي تسكب قهوة الصباح، كانت تأخذ نصيبها من القهوة المقندة برائحة الهيل والزعفران، وعندما يستمع هو إلى صفير شفتيها وهي تسحب الرشفات من فم فنجان القهوة، كان يشعر برفاهية ما يعاصره من زمن جعله يظفر بأم تمتلك شاعرية المبدعين الأصلاء، الذين يقيمون للحياة احتفالية أبدية لا نهاية لبريقها.
في ذلك المساء، في يوم قبل الإجازة الأسبوعية، هاتفها بلغة مترفة بالفرح، وقال طرباً: انتهى الحجر يا أمي، وسوف يكون يوم غد هو يوم احتفالنا بأول لقاء بعد انقطاع دام ثلاثة أشهر.
على الرغم من غياب صوتها، وإحساسه بوهن نبراتها، إلا أنها نفت أن تكون تعاني من أي علّة، ولكنه أصرّ على معرفة أسباب تغيّر صوتها، فأجابت أنها تعاني من نوبة برد خفيفة، وسوف تعالجها كعادتها بالأدوية الشعبية التي تحتفظ بها في البيت، وعلى إثر هذه الكلمات المتفائلة، اختفى توتره خلف الصورة المشرقة للقاء الغد.
ولكن في الغد، في اليوم الذي حطّت به الرحال، في بيت أمه، كان الأمل قد تلاشى، وانتهت الرحلة إلى مكان آخر غير البيت.