بقلم - علي ابو الريش
عندما تصبح الطفولة فراشات، تصير أنت غصناً رطيباً، تحط علو أعطافك انثيالات زمن، يعد لك الومضة بعد غمضة، والوجه الوضيء، يذهب رمضاؤك، وتصبح الصحراء نجوداً، ترفل عشباً، وخصباً، وصخباً، ورطباً، وسهباً، ونخباً، وسحباً، ونجباً، وحسباً، ونسباً، وشهباً، تصبح الحياة نسقاً مترامياً في الوجود، يرتب أثاث القلب، ويهذب خصلات الروح، تصبح أنت في الأنام، نخلة وشعلة، وشمعة ولمعة، وصومعة تدار في حواشيك تأملات الورع، والصوم والجزع، تصبح أنت في الكون فكرة مجللة بالشفافية، وفلسفة تتجلى وهجاً، من وميض الأحلام الزاهية.
هذه فراشتي، الكامنة في تجاويف الروح وتلافيف الجسد، لم أسرج خيلاً، ولكني في الحب، أمتطي صهوة عرفاني لفراشة أيقظت في المعنى والدلالة، وأنبتت في داخلي شجرة الهوى، باسقة، سامقة، أفنانها من ضلوع وأوراقها من مضغة القلب، وعطرها من سفر الإشراقة الجبلية.
هذه فراشتي، علّمتني كيف تنمو الأشجار في الأرض الخصب، وكيف تزهو الأزهار على الغصن الرطب، وكيف تنشد الأطيار، عندما تكون للفراشات أجنحة من جود، وجوى، ويكون للوردة عطر من رضاب، وخضاب، ويكون للأحلام بريق من ثراء، ورخاء وبهاء العيون الناعسة.
هذه فراشتي التي منحت عمري، عمراً، وأينعت في دربي زهراً، وأيفعت في حياتي ثمراً، ومنحتني الإرادة في حب الحياة، وأهدتني من بوحها نعيم الازدهار.
هذه فراشتي، ومرفق ساعدي ومفصل عزيمتي، ومعصم إرادتي، كونتني قبل أن أكون، وبعد أن كنت، كانت هي الأبعاد في جهاتي الأربع، وكانت السمع والبصر، والإبهام والخنصر، وكانت الشدو، والشجو، وكانت العرفان والمعرفة، وكانت الفصل وكانت الرواية المدنفة، وكانت في زماني، أيقونة مسبوكة من حب، ومن لوعة جارفة، كانت في الأصل من ماء وليس دماً، ومن صلب الأنهار وترائب الأطيار، ومن حلم وقع ذات ليلة على عقل الوجود، لتصبح فراشتي، في الفرادة، استثناء، وثنايا، وسجايا، أصفى من الندى، وأنقى من عين الطير، لتصبح فراشتي، النهل والسهل، وعقيدة في الفصول، والأصول، وفي الحقول والسهول، وفي بؤرة السؤال الكبير، إنها من نسل الفراشات، فلا حقبة، ولا عقبة، ولا نحلة، ولا ملة، هي في الأصل كل هذه الأنساق، جاشت في الدنى حدقاً، واستمرأت في الوجود دفقاً، وأصبحت في الفؤاد بلورة، ومنارة، وأصبحت الإيثار والإثارة، وأصبحت البنان، والبيان، عندما تحدق بي أشعر أن للكون حدقاً، هي رموشه، وهي وشوشته التي تدوزن النشيد، وترتب أشجان القصيد.
أصبحت فراشتي، صهيل الخيول في حروبي، وضروبي، ودروبي، وسهوبي، وفي كل الحالات هي لي في الوجود، النفس، والنفيس، وهي المقلة، والقبلة، وهي الفاصلة وآخر السطر، وهي الجملة الفعلية، والاسمية، وهي العبارة المتسامية