بقلم : علي ابو الريش
ثقافة التأجيل، فكرة جهنمية من اختراع العقل البشري، المراوغ، والمخاتل.
عمل الإنسان على مدى زمن طويل على الأخذ بناصية الطمس، وتنويم المنتظر من التطلعات كخدعة بصرية الهدف منها إخفاء الخوف من القادم، من ذلك الشيء المختبئ تحت ملاءة سميكة اسمها المجهول.
الإنسان يؤجل عمله، كوسيلة دفاعية لتأجيل الخوف، تأجيل ما قد يحدث من فشل في تحقيق الأهداف.
عندما يطلب المسؤول من موظف إنجاز عمل ما، فيهز الآخر رأسه، ويقول سأفعل ذلك في القريب العاجل، دون تحديد زمن معين، فإنه يفعل ذلك لكي لا يصطدم بالفشل الذي يؤدي به إلى فشل أكبر، وهو كسب رضى المسؤول.
عندما تطلب الزوجة من زوجها أمراً ما يحقق فرحتها، ويقول لها، لا تقلقي، سوف ألبي لك ما تريدين في أقرب وقت. فإنه يؤجل النتيجة غير المرغوبة، إنه يضع الزوجة في الاحتمالات غير المحسومة، وبذلك يؤجل غضبها، كما أنه يؤجل خوفه من نتائج هذا الغضب.
نحن نؤجل كل ما يتعلق بالمصير، ابتداءً من متطلباتنا الدنيوية، وانتهاء من ثوابنا في الآخرة. نحن نعمل دائماً على انتظار ما لا يأتي، وما لا يرى، وما يعرف له شكل، ولا لون، ولا طعم، ولا نتيجة، لأننا نخضع لآلة جهنمية، داخلية، تجعلنا في حالة الانتظار، وكذلك الأمل.
هذا الأمل في حد ذاته صنيعة تلك الآلة العملاقة، والأزلية والتي تكمن في داخلنا، وتجعلنا في حالة تأجيل مستمر لكل أفعالنا، لأننا مخلوقات ماكرة، ومدبرة لأمر خفي هدفنا منه عدم الاعتراف بضعفنا، وقلتنا أمام أكثرية كون يحيطنا بمخاوف رهيبة لا نستطيع مواجهتها، إلا بمادة التأجيل هذه التي تعيننا على البقاء في مقابل مناجل الهدم التي تغرسها في أذهاننا طبيعة قاسية على الرغم من براعتها في صناعة الجمال.
جمال الطبيعة، جزء من جلالها الرهيب، جزء من عظمة تكوينها، وجزء من بداهتها المرعبة.
عندما وقف الإنسان أمام البحر، ونظر إلى امتداده المهيب، ارتعدت فرائصه، وارتعشت أطرافه، وكلما مد البصر، كلما ازداد ضعفاً أمام هذا العبقري، الذي يخبئ تحت بياض موجاته مخلب الموت، فشعر الإنسان بضعفه، وقال: لن أدخل البحر اليوم، إن غداً لناظره قريب، فأجل ولم يتعجل، ولكن في الغد أصبحت الموجة أعلى، وأعلى، والإنسان يؤجل دخوله، وهكذا يستمر التأجيل، ومعه يستمر التأويل لكل فعل يرتكبه الإنسان في حالة التأجيل.
وما أن يفتح الإنسان عينيه حتى يجد البحر قد مد لساناً يقطر بعبارات الاستهزاء بمكائن مائي يتلوَّن كما تتلوَّن الموجة، ولكنها في التلوين تغسل مهجة اليابسة، بينما الإنسان في تلوينه ينحدر إلى الأسفل، ليصبح مثل القوقعة الخائفة.