بقلم : علي أبو الريش
في الريف السويسري يبدو نهر إنجلبيرك كقطار عملاق، يحمل موجاته المتوترة وحقائب سفرها، أوراق شجر اقتطفتها، وهي في الطريق إلى البحيرة النهرية الرابضة عند خاصرة الجبل، يذهب النهر إلى اللامتناهي ومعه أسئلة الوجود الأزلية، أخبار الناس الذين مروا من هناك والذين تهامسوا والذين شكوا وبثوا اللواعج والذين غسلوا اليدين في الزلال ثم نفضوا القطرات على التراب المبلل بدموعهم وأشواقهم.
تذهب أنت القادم من جنوب التضاريس وتسير حيث يخطو النهر الهوينا ومعه الخرير الموغل في القدم، معه حرير الأعشاب الهيفاء يدغدغ خصلاتها نسيم إنجلبيرك المهفهف بالنعومة والعذوبة وهو يكفكف لوعة الجبل التاريخي، تقول كم من الأيام والسنوات والقرون مضت وهذا الجبل العريق ينث الماء قلائد بيضاء يافعة تنزل على الأديم وتخبر الناس والزائرين عن حقب ونجب ونخب وسغب وعتب وعذب وعذاب، هنا مرت خيول الفرسان، هنا شاخت رؤوس المنتظرين لبلد يخرج من صهد الحروب والكروب والندوب، هنا هجعت أعين العشاق واستراحت قلوب عند شفة الماء تكحل الجفون بالصفاء والنقاء، وهنا تخبّ الركاب، تبحث عن عشب وخصب، وهنا أنت القادم من أقصى الكرة الأرضية تضع أسئلتك وهمومك وحقائب سفرك وبعض خيالات جمحت مثل جياد ترفع الصهيل عالياً لأجل إنسانية عذبها الموج الهائج وتحتاج إلى نيرفانا جديد يخرجها من وهدة الفعل الماضي المستمر.. عند البحيرة، بحيرة إنجلبيرك هناك لسان مائي أشبه بالجناح يفرش بلله على الأرض ويعانق الأخضر بعفوية وحميمية، والناس من حوله يخيطون الكلام المباح على قماشة خضراء نسج حريرها الماء، هناك كائنات أسطورية تبارك خطو النهر وتحيي الزائرين بلغة غريزية عريقة والرنين صوت الطير المحدق في الأجواء، كأنه الحارس التابس باسم السماء القابس بعيون صافية صفاء البشر عندما يوقنون أن السلام شريعة العقل الرزين والفكر الرصين.. تقول لو أن البشرية تخلصت من رواسبها كما يتخلص هذا النهر من الحثالات والطمي لأصبح العالم مدينة مثالية، عبقرية، عملاقة، أناسها مثل الأشجار المظللة، مثل هذه الأزهار التي تبث عبقها من دون أن تفرق بين لون أو طائفة أو عرق.. هنا في هذا المكان الأشياء تستريح من غير تفكير في الأمس، إنها تعيش اللحظة وتمضي إلى اللامتناهي، جذلة، ريانة بالحب.. هنا أنت القادم من البعد الجغرافي العتيد، تغتسل وتتطهر منك لتصبح أنت.
Ali.AbuAlReesh@alIttihad.ae