بقلم : علي أبو الريش
ابتسامة رجل منهك يقف عند قارعة طريق مزدحم برائحة العطر الباريسي، يعطيك أملاً كبيراً بأن الحياة مركبة من لونين، الأول أبيض، والثاني رمادي، في اللون الأبيض تبدو النفس البشرية تذهب إلى العالم بطائرة بأبواب محكمة الإغلاق، لأن هيكلها صنع من الألمنيوم النقي، ولذك يمكنك الوصول إلى الجهة المراد الوصول إليها بسلام ومن دون قلق.
أما في اللون الرمادي، فإنك تستقل طائرة ورقية تتقاذفها الريح حيثما اتجهت، الأمر الذي يجعلك تطير بنفسك في الهواء من دون وقاية تحميك، وتضيفك إلى العالم كفرد سعيد، لا يشقى ولا يشعر بالضنك.
أما في الحالة الثانية، فإنك محمل على راحة لا تكف عن منحك الحياة المأمولة، فلا تنظر غير الوصول إلى محطة السلام التي تريدها. عندما تشاهد رجلاً يقتعد صخرة صغيرة، وقد غطى أخاديدها بقطعة كرتون، ونام هادئاً مستقراً ومهَّد مكانه بسلام، تشعر ببساطة الحياة لو أردناها كما هي، وكم هي رائعة عندما تكون من غير مساحيق تجميل، ومن دون محسنات بديعية تؤرق جملتها الفعلية.
رجل من هذا الزمان رأيته ينام، وفراشه أمنا الأرض، ومهَّد رأسه بساعده الأسمر، كان يرفع نشيداً خافتاً كي لا يصل صوته إلا له، وعندما لمح هامة كائن يقترب منه، رفع رأسه ونظر إليه وشيّعه بابتسامة أشبه بلون قطرات الندى على صفحة ورقة لوز، ثم خبأ أسنانه الناتئة خلف شفتين ناشفتين، وانتظر مرور من مر على قارعته، وبعد ذلك واصل الإنشاد برنين يقترب إلى صوت الناي عند كثيب صحراوي ملتهب، ولكن النظرات ظلت تتبع الخطوات، والابتسامة كانت تفتح أفقها المضيء بشكل يعيد صياغة العالم من جديد، ويرتب أوراقه ويهذب أشواقه ويشذب خصلاته، بحيث يصبح كل شيء على ما يرام، ولا تفلت حبات العشق الوجودي من مكمن القلب.
وبعد مضي زمن ليس بالطويل، وجد المار من هناك أن الابتسامة بدأت تخفت، وأن النائم على جنبه نهض، وظل يتلفت يمنة ويسرة، وكأنه يبحث عن رفيق أو ربما يريد أن يغادر المكان إلى مكان آخر، ولكنه لم يفعل شيئاً من ذلك بل نفض سرواله الرمادي، واعتدل وأخذ لقمته ثم ظل هكذا يقسم العالم إلى قسمين الأول متسخ بالقلق والثاني ينصع بالصفاء، كان هو الطرف الثاني من هذا العالم المشطور إلى نصفي رغيف، أحدهما محترق والآخر متسق، وأخذ هو رغيفه النظيف واستدعى أغنيته مرة أخرى، بينما مرّ الآخر وهو يرزح تحت مزق الرغبات اللا منتهية، باحثاً عن نفسه من بين ركام أزمنته المفعمة بالقلق.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع