بقلم - علي ابو الريش
تذهب إلى بلاد العالم مدفوعاً بحب الاكتشاف، ومعرفة ما في العالم من مدهشات وغرائب وطبيعة خلابة تسلب اللب.
ولكنك بعد مضي أيام قلائل تختفي عنك دهشة المكان الجديد ويحضر الوطن، متجلياً بكل ذكرياته وما رسخ في الذهن من صور ووجوه، وأمكنة وعلاقات إنسانية، يحضر الوطن حاملاً لك البحر والصحراء، والأزقة التي تركت فيها أجمل الذكريات وأحلى اللقاءات، وأنبل ما سكن في القلب واستوطن واستقر، حتى صار هو أنت وأنت هو، وذلك الوجدان المزدهر بالمشاعر المنحوتة مثل نقش بابلي على جدران الوعي، صرت أنت هناك في الوطن وليس هنا في بلاد الغربة، صار الوطن في أحشاء الكلمات همزة الوصل، وفاصلة الربط والجملة الفعلية في وجودك على الأرض، وكلما أمعنت النظر في الطبيعة التي تطوقك بأزهى المشاهد وأزكاها، تحضر صحراؤك ورمالها ونخيلها وتينها وليمونها وغافتها الخالدة. تحضر الجبال السمراء، موشاة بسكنات حمامات البرية، وهي تهدل بصوت جبلي رخيم، تحضر أغنام البدو، متسلقة وعورة الوجود المؤزر بأحلام الناس الأوفياء، وتحضر شوارع المدن الرحيبة، والمولات الرهيبة، تحضر الطمأنينة موشحة بوجوه الناس من كل الأجناس، يسيرون في الأمكنة، مكللين بالحب وكأنما الحب خلق في بلادي فقط، لأنه متسع مثل السماء، صاف مثل الأنهار، متجل مثل الموجة الناصعة، بريء مثل عيون الغزلان، متوج بعواطف أشف من عيون الغزلان، الحب في بلادي يحضر أكثر عندما ترتفع الطائرة في الفضاء، ولا يربطني بالأرض سوى خيط الحب الرهيف، وهو أقوى وأشد رباطة مما يربط النجوم بالكواكب.
عندما تكون في مكان خلف البحار والقارات، يحضر الوطن قادماً بقوة عابراً التضاريس، والبريق الأزلي يملأ حبات رمله، وموجات بحاره، يأتيك قبل أن تقوم من مكانك، أو حتى قبل أن يطرف لك جفن.
إنه وطنك، وأنت تستغرب من أولئك الذين يهدمون ويردمون معالم أوطانهم تحت ذرائع وحجج واهية، وتحت مسوغات أتفه من جناح بعوضة. إنها القسوة عندما تجفف ماء القلوب وتجعلها أرضاً يباباً.
فالوطن هو أنت، مهما غبت وذهبت بعيداً، يبقى حضوره هو وتد الحياة يبقى الوطن جذعك، إن أضررت به ماتت أغصانك، وذبلت أوراقك وانحطت ثمارك.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد