بقلم - علي ابو الريش
بمسافة مائة كيلو متر، تهجع قرية «برو» بعيداً عن لوزان، تطوقها الأشجار العملاقة، وبيوت الخشب الريفية العريقة.
في هذه القرية أبدع شخص اسمه ألكسندر كالييه، في صناعة شكولاتة الكاكاو مع حليب النستل، ولمشروب الكاكاو تاريخ من العلاقة الإنسانية في سويسرا، فحضارة الأستيك كانت تقدس شراب الكاكاو، وتعتبره هدية من السماء لأهل الأرض، لطرد الشيطان، كما أن الملوك والطبقات الأرستقراطية، كانوا يتخذون من هذا الشراب السحري أكسير الطاقة والحيوية، لبناء علاقات مع الطرف الآخر تتسم بالبهجة والسرور.
عندما تعبر الطرقات بالسيارة تشعر بالقنوط، وتتمنى أن تغادر مقعدك في السيارة، وتسير مشياً على قدميك، لأنه ما من لحظة تخطف بها نظرة لطبيعة تبدو وكأنها في أول الخليقة، تحتاج منك الجرأة لتفتح صفحة جديدة مع التاريخ، وتبدأ في قراءة الحروف الهجائية للمكان في زمان أصبح من الصعب فيه النظر إلى الأشياء نفسها خلال فترة زمنية قصيرة، لأن الزمن يمضي بسرعة البرق، ودوران الكرة الأرضيّة ليس كالمعتاد، كما يبدو للمتأمل في حركة التاريخ، فالأجمل أن نتجمل بفطنة التأمل، وألا ندع الزمن يفلت من بين أصابعنا، كما هي قطرات الماء، وأن ندرك مدى أهمية أن نكون في تحالف دائم مع الطبيعة، لأنه ما من وجه أجمل من وجه الطبيعة، وما من لسان أصدق من لسان الطبيعة.
الطبيعة تأتينا كما هي في ثوبها الخالد، من دون محسنات بديعية، ولا مساحيق تجميل هي هكذا بجمالها الغريزي، وصدقها الطبيعي، الأمر الذي يجعلنا نتحد معها عندما نكون أسوياء، وفي كامل وعينا، فلا وغير، ولا نبدل من القول الفعل.
في قرية، برو هناك المكان يشع بتاريخ المكان، ومن دون زيف، أو تحريف، فالأشياء والبيوت، وحتى وجوه الناس تجدها بعفوية الطبيعة، تبدو هكذا كبراعم الزهور، بريئة، وبرائحة التراب الذي خرجت منه.
تقف عند منحدر، أو تجاور مرتفعاً، فالأشياء تحيطك بغبطة الجبلة الأولى، تمنحك دفأها، من غير شروط، الأشجار الواقفة هناك منذ فجر التاريخ، لا تزال ترسم صورة مثلى للالتزام الأخلاقي الذي تتمتع به الطبيعة، عندما لا تلمسها يد الإنسان، وعندما لا تحاصرها الآله الحديدية بأضراس الحماقة، وكلما تأملت المكان، شعرت أنك في زمن غير الزمان الذي أنت فيه، شعرت أنك تستدعي ذاكرة المكان لتاريخ ما قبل عدائية الإنسان للطبيعة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد