بقلم - علي ابو الريش
تجلس في مكان ما، وأنت تتأمل الوجوه، فتمر عبر شاشة العقل وجوه أخرى، ومشاهد وصور.شاشة العقل العملاقة والأسطورية، تريك الأشياء ملونة ومزدانة، وأحياناً مشوشة وباهتة. تتساءل لماذا بعضها ببريق، وأخرى مكسوة بغبار؟ يأتيك الجواب من العقل الباطن، يأتيك مثل رسالة مطوية من ورق صقيل.
تقول الرسالة، الأشياء والوجوه تتدفق عبر قنوات تصفية، يقوم بهذا الدور عقل باطن، ينقي ويشذب، ويهذب ويكتب على كل وجه أو صورة تاريخها وأهميتها ومصدرها، ودورها في تشكيل وجدانك، وتأثيث مشاعرك وتلوين شخصيتك.
المعجزة في الأمر، أن لا شيء يأتي من لا شيء، بل إن كل ما يحضر في العقل من مشاهد هو حدث في يوم ما، وبسبب ما، وأنت الذي انتقلت من منطقة زمنية إلى أخرى، وأنت الذي تغيرت، ولكن الذي لم يتغير
فيك، هو هذا الوعاء التاريخي العظيم الذي سجل كل نبضة وكل خفقة، وكل حركة وكل سكنة، وكل ابتسامة وكل دمعة، وكل لحظة فرح، وكل لحظة كدر.
أنت تتغير، ولكن العقل يبقى مثل أيقونة زمنية صامدة أمام التغيرات والتحولات، وهذا سر وجودك على قيد الحياة. عندما تجلس في عزلتك، تمر الصور كما هي الصور السينمائية، تحرك فيك المكامن، وتستدعي الذاكرة بكل قوة ونشاط، كي تقرأ ما في ألبوم الصور، من ملامح وتقاسيم على الملامح، تشعر بأنك قد ركبت طائرة أسرع من الصوت، ووصلت إلى منطقة ما، هناك يكمن الحدث المجلجل، وهناك تسقط على عينيك،
ذرات دقيقة من الأشعة الضوئية التي تشيع في قلبك النفير، وتنشر أجنحة واسعة الحلقات، وأنت كامن في مكانك، تنظر بدهشة، كيف يمكن لمثل هذه الصور أن تنزلق في حفرة الوعي، وتتألق مثل الأهداب الشمسية، وتلج وجدانك بقوة الأثر المريع، وتحتويك، وتستولي على كل دفقة من دفقات القلب وتأسرك، ولا تستطيع أن تبرح مكانها، لأنها هي أنت في لحظة من لحظات الزمن، ولأنك كنت في تلك اللحظة غير الذي تكونه الآن.
الزمن ليس شيئاً خالداً كما نتصور، بل هو من اختراعنا، كما هو التاريخ الذي نصوغ أحداثه، كما ينبغي لنا أن نصوغها. الآن أنت في هذه اللحظة، تبدو نقطة في بحر ذاكرة تتجلى مثل قرص الشمس، وتسمو مثل سقف سمائي يحيطك بالرهبة، ويطوقك بالسكون.عقلك هو الذي فعل كل ذلك، وهو الذي منحك كل هذا الخلود، عندما منحك قدرة الاحتفاظ بالصور