بقلم : علي أبو الريش
عندما تصحو في الصباح، وترى الجبل قد ارتدى جلباباً أبيض، فاعلم أن الغيمة قد دهمته ليلاً، ومدت ذراعاً من شرشف السماء، فاحتوت العنق والحدق وانسجمت معاً في وساقي الوجود، وتلاشت خيوط النهار الفائت، واختفت خطوط الطول والعرض، وبدا الوجود مثل نهر لا حدود لجهاته الأربع.
هذه هي الغيمة لها سحر امرأة عاشقة تبسط جناح الذل، لتستولي على الوجود، وتمتلك شغاف الموجودات بكل شفافية وحنان الفطرة المباغتة، فلا جدال حول ما تختزنه الغيمة من دهشة عندما تسبل جفون التأمل، وتنظر إلى الجبل، ثم تلتقط حبات ولهه إلى عناق الطبيعة، وقبلات ما قبل التواصل، والاندماج، في كون يحتاج إلى وعي بأهمية أن تتناغم المخلوقات، وأن تنسجم في مدار لا يخل عن دورته التاريخية، ولا يزل عن محيطه الوجودي، وهكذا وجد الجبل ارتفاعه الشاهق ينخفض تحت شال الغيمة، ويتلاشى في غضون اللون الأبيض الشفاف، وتصبح سماء زلامسي مثل شراع سفينة عملاقة والأرض تخب مثل ركاب الأبدية، تحت زخ من ماء الله، وترتشف حليب الغيمة برغبة القلوب الصارمة، وتتضرع للعلي القدير أن يصبح العالم أجمع غيمة واسعة الجلباب، وفي جيوبها تخبئ أكسير الحياة لينعم العالم بلذيذ العيش، ويعيش في أمن وطمأنينة.
في زلامسي بدت الشوارع مثل أسرة كبيرة، وأرائك مدهشة، يرتقي الناس على نعيمها من دون وجل أو جلل لغات، ووجوه، وثقافات، تسير في الطرقات مثل أحلام صبية، يرطبها عذب المطر وأخلاق ثقافة وحدة الوجود التي تمتع بها أهل النمسا، في تلك اللحظات، تتذكر لو أن هتلر مد أذرعته في هذا المكان، واستولى على ما كان يدور في خلده، أقول لو لا قدر الله، وتم ما فكر فيه هذا الفوهرر، فلا أعتقد سيكون لبحيرة زلامسي كل هذا اللمعان، وهي ترتع بمنظر الوجوه السمحة، وقيم الناس الأوفياء للحياة، والمنتمين للفرح، والذاهبين إلى الآخر بأفئدة مثل أنهار بلادهم، صافية، ومتعافية من درن الأفكار السوداوية، وأحزان الأبدية، والعوائق التاريخية. عندما تتكلم عن الجمال فتحتاج إلى صفحات تمتلئ بها الكتب، لأن الجمال مثل النهر ليس له فواصل تفرق بين قطراته، ولو أردنا أن نعود للتاريخ، أيضاً نحتاج إلى صفحات تضج لها الكتب، لأن التاريخ النمساوي ليس مفصولاً عن تاريخ ألمانيا، فالألم واحد، والدمعة التي سالت هنا، هي نفسها التي أغرقت هتلر في بحر خساراته، وانهياراته، التي أعادت الوعي الأوروبي إلى منطقة اليقظة، وأزاحت عن كاهل المغيبين لعنة الجبروت.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر: جريدة الاتحاد