بقلم : علي أبو الريش
يقول أحد السوريين الذين يعيشون في الإمارات، إنه جاء إلى هنا منذ عشر سنوات، وعمل في محل تجاري، واستطاع بفضل أهل الكرم والجود أن يعيش هانئاً مطمئناً، مستقراً، ولم يشك من أي ظرف أو صرف، بل شعر بأنه يعيش في بلاده، ولولا الزوجة والأبناء لما فكر بالعودة إلى هناك، ويضيف الرجل بألم وحسرة قائلاً لقد جمعت مبلغاً لا بأس به، واستطعت أن أوفره لبناء منزل جديد في بلادي، وأتخلص من البيت القديم، وكنت ناوياً السفر إلى هناك وكانت الفرحة تملأ قلبي، والطموح بحجم أشجار الزيتون ولكن، ثم يغص بدمعة تملكت مشاعره ويردف قائلاً عندما عدت إلى سوريا كانت الحرب قد بدأت، وهُدم البيت القديم، ولم أستطع بناء البيت الذي تمنيته كنفاً لأسرتي.
ويستطرد الرجل المكلوم، لقد فقدت أحد أبنائي إثر ضربة جوية، هدمت منازل حي بالكامل، والآن والأسرة في الأردن وبعض الأشقاء والأقارب في سوريا، وبعضهم هاجروا إلى أمكنة بعيدة، لا أدري أين هي، وأنا هنا برغم كل ما أتمتع به من أمن وحفاوة من ذوي الفضل في هذا البلد العظيم لكن الفراق مؤلم والأمل أصبح شبه سراب يملأ عيني، وفي الليل كلما غفا الجفن اجتاحت العين صور ومشاهد مفزعة، فأنا أتذكر ابني وكيف كانت زوجتي تسرد لي حكاية موته وهو يضم دميته في صدره ورأسه ينزف دماً، ويقول الرجل ليس أغلى من الابن إلا الوطن، وأنا فقدت الاثنين، ولا أملك الآن إلا الذكريات الماضية، أذكر سوريا، على الرغم من المعاناة وشظف العيش وقسوة النظام، إلا أن هذه الآلام لا تساوي شيئاً أمام استباحة بلد من قبل دول أخرى وضياعها في حومة الأحزاب والتنظيمات، وكل يضع المبررات، والمسوغات والدماء السورية تسيل ملُحاً أجاجاً، والضياع تتسع حدقاته، والأمل مفقود ومعقود.. ويمسح الرجل دمعته بظاهر كفه، ثم يتأوه ثم ينظر إلى الفراغ ثم يطرق قائلاً انظر إلى هذا الطير ليتني أصبح مثله، بجناحين فأطير سراً إلى سوريا وأدخل خلسة هناك وأنظر إلى آثار ما تبقى من حصى ورمل وخطوات من مشوا في زقاق الأحياء السورية العريقة، وأشم رائحة الطين المضمخ بماء رجلة، ثم ينشج الرجل وكم هي صعبة دموع الرجال، كم هو عسير انكسار الرجال، ولكن الأوضاع العربية يبدو أنها تمتلك أسناناً أسطورية تستطيع أن تفتك بالرجال، وتهدم الجبال، وتحول الواقع إلى محال، لأننا نعيش في زمن كلما جاءت أمة لعنت أختها، وهكذا دواليك، العجلة تدور وبشراسة تدهس الأرواح قبل الأجسام، وتضيع البوصلة في متاهات الأسئلة.