بقلم : علي أبو الريش
هنا في زلامسي كم من التاريخ مر وعبر، هنا مرت قوافل هتلر، وهنا سالت دماء الأبرياء، وهنا مر العشاق، ونحتوا القصائد على صفحات البحيرة الدافئة هنا قالوا عن أشواقهم، ورسموا الأحلام طيوراً تغني للوجود، وتعانق الأشجار حارسة الوجد البشري، بأمانة الفطرة، وغريزة الانتماء إلى الحياة.
قوارب صغيرة تعبر الماء وتهدهد شغف البحيرة، تمضي بالمسافرين إلى حيث يكمن الاكتشاف لأسرار خلود الماء رغم فجاجة التاريخ، وصرامة الناس وقسوة السياسة في مثير من الأحيان، والرغبة الملحة لأن تتطور الأخاديد في الصدور، والثغور، وما بين البحيرة والتاريخ شيء من الألم، وأشياء من اللذة، عندما تمرر أصابعك بين دفقات الماء تشعر أنك فعلاً من هذا الكيان الأبدي، وأنك لن تموت مادمت في الجزء الأعمق من فكرة الماء، ومن نهج الطبيعة المخلد في ذاكرة الله.
الأطفال وحدهم الذين يعرفون أنهم جاؤوا من هذا السائل السحري، لذلك تجد في ابتساماتهم لغة الطبيعة، وتجد في شغبهم حركة الأغصان وهي تلامس أجنحة الطير، وتدغدغ شفة الوجود، بهفهفات، أرق من رفرفة الأهداب على أجفان من شغفن بتاريخ الأجساد المنعمة بترف اللحظات الحاسمة، وصدفة القبلات الرهيفة.
لم تزل البحيرة، ترقب الآتين من أقصى الأشواق، الحادبين في مراعي الوله، وهم نخب الأجناس البشرية التي لم يلمس ثيابها دنس الكراهية ولم يعرفوا غير الحب للناس أجمعين يخيطون قماشته بأناة وتؤدة، ويسبكون حلية بأنامل معطرة بحناء الصحراء النبيلة، ويشيعون الآخر بنظرات خفقها من نسل الغافة العريقة، والنخلة المباركة، وتحياتهم، ممزوجة بقرنفل سلام عربي تسلم الرسالة منذ فجر التاريخ، وحملها برداً وسلاماً للعالم أجمعين، ولم تزل في مروج أوروبا تفوح من عطره، وفي عيون الناس تلحظ هذا الإجلال لقوم مازلوا وما خلوا برغم ما جنته ضمائر من أرادوا أن يشوهوا، ويسوفوا، ويسفوا، فالثوابت راسخة، وشجرة الأخلاق لا زالت تلقي بثمار الحب، وهكذا تبدو البحيرة تستقبل الثوب العربي، بهفهفات تسكن القلب، فتملأه حنيناً إلى تاريخ لن تبليه العواصف والنواسف، وأخبار المرجفين.
يا الله كم هي البحيرة شاسعة بعيون الناس العاشقين، وهم يرتلون قصائد لهفتهم لمشهد أشبه باحتفال الطير ساعة عناقه مع الفرح العفوي، ولحظة اكتساء الصحراء سندس المطر.
إنه البلل السماوي يجتاح العيون، والخدود، والوجنات ساحات لعناق خفي، والشفاه مبرية بأقلام الصباح الندي، والأحلام تتمشى في باحات النخوة العربية، والأيام تنقش ثوبها بورد الأفراح المجلجلة، والضجيج يبدو بملامح العفوية، مغسولاً بالفطرة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر: الاتحاد