بقلم : علي أبو الريش
نكون في الماضي عندما نسقط ضوء الحاضر على دفاتره. نكون في الماضي عندما نضع في حقيبة الحاضر مستلزمات ما يضيء المستقبل. فلا شيء يأتي من لا شيء، ولكل وجود حتمية الوجود، وحتى المصادفة، فهي نتيجة لالتقاء سلسلتين من الحتمية. الماضي بذرة شجرة الحاضر، وهو نقطة المطر التي حركت مياه النهر، وهو الموجة التي دفعت بسفينة الحاضر، كي تبحر، وتمضي باتجاه السفر البعيد.
لا يمكن لحاضر أن يفرد أشرعة الازدهار من دون ماضٍ، ومد الجذور بالنبع الصافي. في زيارته منطقة الشندغة التراثية، وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الكلمة الفصل عند ناصية المعنى، واستدعى التاريخ ليكون حاضراً في المشهد الآني، وظلل سموه الكلمات بسحابات ممطرة من وعي بأهمية التراث لكونه النسق الثقافي الذي منه تتشرب أغصان الحاضر، فتعلو قاماتها، وتشع أوراقها بخضرة الينوع، ونداوة اليفوع. فالحاضر لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة منطقية لاستمرار حلقات التطور، في التلاقي، والتساقي من معين الإيمان بوحدة الوجود، وكما أن لكل جسد أعضاءه، فإن للزمن جسداً، ولهذا الجسد أعضاء، وهي الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهي أعضاء متصلة وليست منفصلة، فلا يولد الحاضر إلا من رحم الماضي، ولا يأتي المستقبل إلا وفي ملامحه، سمة من سمات أحشاء الحاضر، وهكذا فإن لذاكرة الزمن صفحات لا تملأ إلا بالإيمان بأن الزمن ليس إلا سلوك إنساني، يحفر في الحياة مجده، وتطوره، ويسجل انتماءه إلى عناصر الوجود بكل فخر، واعتزاز. فليس الحاضر هو خروج عن الماضي، وإنما هو امتداد طبيعي لجذوره، وهو الرحلة الأطول إلى المستقبل، وهو السرعة الفائقة إلى ما بعد الحاضر، وإلى مناطق أوسع في قارات الزمن. والإمارات منذ المؤسسين، وهي تضع الماضي أمام مرأى، ومسمع من الحاضر، لتتلو الأجيال تفاصيل الوجوه، وما كتب على الجباه، ثم تمضي في الحياة، متسلحة بالمعاني، الجميلة، والقيم النبيلة، ولولا بذل الأجداد لما وصل الأحفاد إلى هذا الشاطئ الحضاري، المزدان بقناديل الرقي، ومن يراقب المشهد في الإمارات، يجد أن الحياة هنا تسير على ركب موجات البحر، فإنها تجدد نفسها من خلال تلاحقها، وارتباطها بشغف البحر للتمدد، ومعانقة الشواطئ.
في الإمارات الزمن منفصل، ومتصل، منفصل في حرية العطاء من دون رواسب، ومتصل في زخم الإرث التاريخي، وما له من أثر في إثراء الرصيد المعنوي والمادي. في الإمارات يصحو على ذاكرة منقوشة بزخرف الماضي، ونمسي على واقع يقطف من حبات البراعة بكل الشيم النبيلة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد