بقلم : علي أبو الريش
أذهلتني إحدى المذيعات عندما شهقت لمجرد سماعها أن شخصاً ما، لا يمتلك من الهواتف النقالة سوى «النوكيا»، معتبرة ذلك قمة التخلف والأمية، قالت في دهشة، كيف يستطيع الإنسان التواصل مع العالم من دون الوسائط الجديدة مثل «الواتساب، والتويتر والفيسبوك والانستغرام» وغيرها..
وظلت تتحدث بإسهاب والخوض في التفاصيل، لا أحد يعترض على التطور التكنولوجي الهائل، وما قدمته وسائل التواصل الاجتماعي من خدمات رفيعة في مجال نشر المعلومات، ولكن، وكما أعتقد أن ما كانت تتحدث عنه المذيعة «المتطورة» هو غير الهدف السامي الذي صنع من أجله الهاتف بصفة عامة، والوسائل الأخرى بصفة خاصة، لأنني كما لاحظت من حديثها أنها تلج في بحار اللغة فتغرق في المفردات وتغص بعض الكلمات في حلقها تجرعات الماء المالحة، الأمر الذي أصابني بالدهشة، كيف تتحدث فتاة وإعلامية وتدعي الحداثة وهي لازالت تغط في سبات السطحية وتسبح في محيطات ملوثة بمفردات أبعد ما تكون عن لغتنا الجميلة، إذا لم يلحق التطور هذا العقل وإذا لم يغسله من الشوائب والرواسب وإذا لم ينظف عباءته من الغبار وإذا لم يستطع التطور أن يرتقي بالإنسان فإن التحولات المادية لن تغير من الحال شيئاً، بل ستكون عبئاً ثقيلاً على كاهل من يدعي التطور والتطور منه براء.
يجب أن نتأنى وأن نمسك بتلابيب الأمور بالعقل قبل العين وأن نعي دورنا في الحياة، وأهم أدوارنا أن نكون جزءاً من التطور وليس تابعين له، وأن نكون شركاء في صناعة الفرح الإنساني لا أشباه، نلاحق الظل ونتبع المد البحري أينما ذهب حتى ولو اجتاح عقولنا وغطسنا إلى حد الغرق.. التطور الحقيقي أن نتعرف على أنفسنا أولاً، ومن ثم أن نتلمس أسباب التطور، ومن ثم نفكر في التماهي بصورة واعية ومن دون إسفاف، ما يحصل الآن في وسائل التواصل الاجتماعي التي تتحدث عنها المذيعة الموقرة بأنفة وكبرياء هو التطويع بحد ذاته وإذلال الذات إلى أن تصبح ناقة عرجاء يقودها شخص أعمى.. لقد خرج الكثيرون عن النص وأصبحوا يصيبون نياط الحقيقة في مقتل، نظراً لانغماسهم في التبسيط والتسطيح والإسفاف وتحويل الضمير إلى كومة قمامة، لا مكان لها إلا مكبات النفايات.
اليوم أصبحنا غرباء عن زوجاتنا وأبنائنا وأصدقائنا، وكل من تربطنا به علاقة ود لأن الود تسرب بين طيات هذه التكنولوجيا المزعومة بعد أن تحولت إلى أشبه بلعبة «الغماية» أو «الثعلب فات.. فات».. نحن بحاجة إلى إعادة الوعي المختطف.. نحن بحاجة إلى بناء الذات من جديد.. نحن بحاجة إلى ترتيب مشاعرنا كي لا تصبح بقايا شعير ذُرَّ فوق شوك.