بقلم : علي أبو الريش
لو نزلت إلى الشارع، في مدينة من مدن العالم، وسط حشد من البشر، ونظرت إلى الجباه، ماذا ستقرأ في الوجوه؟ بطبيعة الحال، هناك ألوان وأشكال من الوجوه، ولكن الجميع ينتمي إلى جينات البشر، ولن تستطيع أن تفرق بين المسلم والمسيحي واليهودي
. ولكن لو اقتربت من أحدهم وصافحته، وقابلك بابتسامة أشف من الماء الرقراق، وأعذب من الشهد، سوف تشعر بالسعادة وانشراح الصدر، وفي الوهلة الأولى لن تسأل عن دينه أو ملته، ولكنك لو فكرت في تقليب السجلات وتصفح أوراق التاريخ، والتفت إلى الوراء ونبشت في الرواسب والمكبات التاريخية القديمة، سوف تتوقف وتنظر إلى الشخص متأملاً الوجه واللسان، متحفظاً بعض الشيء، ولو تعمقت أكثر وانغمست فيما تحت المعطف التاريخي، وفي الجيوب والثقوب والغيوب والندوب، هنا سوف يقشعر بدنك وينتفض صدرك، وينقبض قلبك، وتتيبس العروق في رأسك، وستشعر بالدوار، وقد تتصلب ولا تدري ماذا تفعل بنفسك لكونك صافحت كائناً بشرياً، هو ليس من ملتك وطائفتك.
هذه هي المعضلة.
. القضية مرتبطة بالحاجز النفسي لا أكثر ولا أقل، ولو انعكس هذا الحاجز وأزيلت العقبات، وانزاحت الغيمة الداكنة عن العين، واختفى آثار الندوب في النفس، والتي غُرست كإبر صينية، مع الاختلاف في القيمة، لما تراكمت كثبان الحقد، ولما ارتفعت أمواج الكراهية، ولما عصفت الرياح بالقلوب وحوّلتها إلى خرائب ومستنقعات، لا تنمو فيها إلا الطفيليات والحشرات الضارة، فلا يوجد مانع موضوعي، من التقاء الناس بالناس، سوى الموانع الوهمية والصور الخيالية، ذات الحجم الضخم والمخيف.
ولو عرف الناس وعن يقين أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان بالرسالات الثلاث من دون تمييز، كما أن الاعتراف بالحب كإكسير للحياة، فلن نجد ما يرهب أو يغضب أو ينكب، أو يضرب جذور الإنسانية في صميمها، فالمشكلة لا تكمن في خلاف بين الديانات، لأنها رسالات سماوية، وجلها مبتعث من رب واحد، بل ما يثير الغبار ويشعل السعار هو هذا الأنا المتورم، المتأزم لدى الإنسان، إنسان اليوم والأمس، ولا نتمنى لإنسان الغد أن يكون شبيهاً لما قبله، لأن الحقيقة الدامغة تشير إلى أن الخلاف ليس بين الأديان، وإنما بين صنوف البشر، الذين تمكنت منهم الأنانية، وعشق الفردية إلى درجة أنها قيّدتهم ضمن بوتقات ضيقة، جعلت الفرد الواحد يصنع إلهه في داخله، ليقول للآخر: إنني مختلف عنك وعن سواك، الأمر الذي يستدعي من ذوي الحكمة والفطنة أن يخوضوا غمار هذه المعركة، بإرادة لا تلين وعزيمة لا تستكين، حتى يسفر القمر عن نور مشع في قلوب العالمين من دون استثناء، وينتهي ظلام الكراهية والأنانية واختطاف الأديان.