بقلم : علي ابو الريش
في الحنين نكوص إلى عوالم ما قبل الوعي، وفي الحنين استدعاء للوعي، حتى تبدو الصورة بين جدول الذاكرة، وعشب المشاهد، والتجارب، والأحداث، والصور، والوجوه والأمكنة.
الحنين مثل سفينة تعبر بك إلى مناطق ربما تكون في الواقع قد اندثرت ولكنها في العقل تظل سامقة مثل نخلة تاريخية، مثل الأبدية في وجدان النجوم، والأنهار، والجبال، مثل كل الأشياء التي لا تأفل مهما امتد بها الزمن.
الحنين هو عفويتك التي تنبعث من بين طيات المشاعر، وهو فطرتك التي تخرج من تحت الأرض التي مشيت على أديمها، والتي لامست حبات ترابها بأصابع ما ملَّت النبش بين الثنيات والتلافيف.
حنينك إلى الوجوه مثل خيط الشعاع الذي ينعقد بين السماء والأرض، هو مثل الشهاب البارق الذي يتشقق وهجاً، وينفرج عن ضوء في سمائك الداخلية. في الحنين أنت تولد من جديد، وفيك تولد أجنة الصور التي تظن أنها تلاشت، وإنما هي لم تزل تبحث عن مشيمتها التي ضاعت في زحام الأيام، واختفت تحت ظلال الجدران المتهاوية.
في الحنين أنت تستعيد طفولة مغمورة، مغدورة، مكسورة، مثبورة، مدحورة، أنت في الحنين، تغادر منطقة اللاوعي، وتصل إلى وعيك الحقيقي، وتتخلص من الخدع البصرية التي أغشتك، واحتلت فيك جغرافيا الحلم.
في الحنين أنت تكمن في قلب الحلم وتقع عند شفة النهر، ترشف من الماء الرقراق، وتحتسي العذوبة، وتكرع ولا تتورع، في خوض غمار الأبدية.
في الحنين أنت تمارس طفولة المشاعر، وترسم صورة مثلى لإنسان أول قفز من قمة الشجرة ليلتقط حبات الوعي الأولى، ويمضي في غابة العمر من دون رتوش، أو خدوش، أو نقوش، إنك في صلب البراءة تتهجى حروف المشهد، وتقرأ آية الحلم البدائي من دون توجس أو تحسس أو رجس أو بخس أو نحس، أنت كما أنت ولا شيء يعرقلك، أو يعيق وصولك إلى قاع المحيط. أنت في الحنين، تحلق، وتحدق، وتطرق، وتغدق، وتغرق قلمك في حبر الأيام، ثم تسرد القصة، وتحيك قماشتها، بخيوط من حرير مشاعر لم تلبث أن تستيقظ وتفتح أجفاناً، وتحرك رموشاً، وأنت في المعنى والمغزى جملة لم تختص في التفسير بقدر ما هي جدول في أصل الحكاية، لأجل الإرواء، والرواية، ولأجل البوح والإباحة، أنت في مجمل القول قناة الوصل ما بين النهر والجدول، أنت الأصل في بناء مملكة الحلم، وإعادة اللون الأخضر إلى عشب الذاكرة.