بقلم : علي أبو الريش
كأمٍ رؤوم تنحني الغيمة على فم الأرض، فتسقيها من يراع السماء، فترتفع الأغصان مهللة مبتهلة مدللة، خضراء، هيفاء، جذلى، والطير يرسم في الوجود لوحة تشكيلية بلون الأجنحة المرفرفة، العازفة لحن الخلود، قادمات من الأقاصي والأداني، من أتون الأرض، من فضائها المزخرف بالبهجة، والنشيد غريزياً فطرته الفرح، فلا جرح ولا قرح، إنها مبادئ الطبيعة وديدن الكائنات النبيلة.
هذه الإمارات تحت الغيمة تبارك الله وتهفو إلى السماء الجزيلة، ضارعة خاشعة متهجدة، لأن المطر قامة ممتدة من السماء إلى الأرض، ينثر القطرات لامعة، كأنها دموع العذارى ساعة النشوة المباركة بتلك الأجفان والأشجان، ويبدو الوجدان بستان زهر ومنازل بخور، يبدو الإنسان فراشة ملونة بعطر الفرح، ولأن المطر شراع السفر إلى الانتماء، ترى الوجوه مثل أكمام الورد تحت البرق والرعد، تتفتح سروراً وحبوراً، وتتجلى العيون ناعسات، سابحات في فضاء المطر، سائحات كاسيات، كاعبات، مجندلات، بأهداف أرخت سدول الهوى والنوى والجوى، ولامست وجداً ووجوداً، والنجود، غارفات من نعيم الله، من أطراف الأحلام، من الأيام، من حبر السماء.
تحت الغيمة، الوشاح، فضي، والوسادة عشب ناهض للتو، يبغى الانتعاش، والعشاق كثر، والقصيدة طفلة، تتمشى في تلافيف الشعراء يخصبونها بالمعنى والدلالة، ويسهبون في الإمعان والفصاحة والحصافة، ناحتين الكلمة على لوح وقدح، تحت الغيمة تمضي الكلمات مثل نقش الطير على تربة مبللة بالرحيق مثل نبش الفلاسفة في دفاتر الذكر والفكر، ومن لا يعشق المطر كمن يذهب في الغابة ولا يصافح إلا مخالب اليباب، من لا يعشق المطر، تسطو على قدميه أعشاب الشوك، ولا يعثر إلا على صفصافة عجفاء.. ميتة.
تحت الغيمة، يبدو الحب كونياً، والقلب صفحة بيضاء من غير سوء، وتحت الغيمة يذهب الماضي، يزول الغد، ولا يفصح الفجر إلا عن لحظة فيها يوقد الرأس جمرات الهوى ويلعن الشيطان، يلعن كل كاره وحاقد، فقد الصواب بعد خراب الألباب وضياع البوصلة في دياجير الجهل والغفلة المضللة، تحت الغيمة، تصبح رائحة المطر مثل بخور امرأة من ذاك الزمان، ذاك الإحسان، ذاك اللجين المبرقع بالبشاشة وعفوية التاريخ، تحت الغيمة تغادرك نفايات العمر وقمامة الأفكار «المدبلجة»، وتحضر أنت الواحد من دون ثنائيات العصاب القهري، وانفصام الشخصية.. تكون أنت، هو أنت، بنقاء النجوم، وصفاء عيون الطير.
المصدر : الاتحاد