بقلم : علي أبو الريش
في شارع يفترش سجادة باردة، يسمق فندق لوزان بالاس، ليطل على الفضاء الرحب، ويغزل جدائل الغيمة، وهي ترخي شالها الأبيض الكثيف، وعند الرصيف المبلل بالرضاب العذب، تمشت حمامات الألفة، تلتقط حبات الحياة، وتدلف بين أحشاء المكان، وكأنها تبحث عن لؤلؤة في أعماق البحر.
هنا في هذا البلد الحيادي في سويسرا، كل شيء ينبض بالجمال والوجوه تمضي مشرقة بدوائر المطر، مبللة بالفرح، وهي تعانق بهجة الحياة، بتفاؤل لا نظير له، هنا في هذا البلد المدثر بندف البرد، تخصب مشاعر الناس سكينة المدينة المسترخية عند خاصرة البحيرة الأسطورية والأشجار قد خلعت ملابسها، لتستحم في حوض السماء البارد، وعند أغصانها، العارية صاح الطير منادياً إله الكون فرحاً طروباً، لأن الله وهبه مدينة بلا ضغينة، وأشجار تنزع إلى العلا، متفرعة، كأنها أشرعة السفر الطويل.
تسافر إلى جنيف، ثم تحث الخطا إلى لوزان، ومنها تتبع الخطوات إلى إنترلاكن، وهناك، يأخذك الارتفاع الجبلي إلى حيث تمد الغيمة سيقان المودة، هناك في هذا المكان المعشوشب بالوجوه السماوية الصافية تقرأ أنت القادم من الأقاصي، هذه الآيات، وتبتهل إلى الله، الذي رتب الجمال، وهذب خصال الطبيعة، وجعلها مثل امرأة، مكسوة بوجنة لم تخدشها أنملة، ولم تلمسها نسمة كل ما في الأمر أن الطبيعة لم تزل بعد عذراء، كاعبة، يخصبها المطر، فتنبت مراعيها، ويكبر شوقها للحياة وينمو حبها عفوياً صافياً مثل أنهارها الممتدة على أرواح الحالمين بنخوة العطاء الرباني، مثل كنائسهم التي يشهد لها مارتن لوثر كنج بقدرتها الفائقة على التسامح، والشفافية على الرغم من غبار الحروب، وما خلفته لفائف الأديان المزيفة.
هنا في هذه المدينة الوادعة، عند خاصرة فرنسا لم يزل نهر السين يذكر سويسرا، كيف حال الأوطان، عندما احمرت أشداق هتلر وتورمت أناه وفكر ما فكر فيه الشيطان عندما وسوس في رأس هابيل، هنا ينسكب السين القادم من ذاكرة فرنسا، ليقف شاهداً على جمال سويسرا وسلامها الدائم وسلامتها من غش السلع الأيديولوجية، وفضاضة لغة القوة عندما تصبح قارباً هرماً، يريد أن يجتاز البحر الهائج.
الأيام في هذا البلد تمضي مثل الغزلان على ضفاف نهر لم تغدر به الضواري، أيام تتسرب في الدماء، مثل تغاريد الطير على قمم الجبال الخضراء، تدخل في القلب، ثم تعبر إلى مناطق الروح، وأنت أنت المتفرس في جحيم الأشواق، تقف مذهولاً كيف تمر الغيمة على لوزان، ولا تبل وجنتك كيف تسقط ندف البرد، ولا ترعش خافقيك؟ ومازالت تتأمل أصابع الحمامة، وهي مخضبة بالأحمر، تمر من أمامك، وتتخايل، وكأنها أشواق امرأة عاشقة، كأنها أحلامك القديمة، كأنها تفاصيل حياتك الصغيرة، كأنها سويسرا اليانعة تحت المطر.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد