بقلم : علي أبو الريش
في الطريق إلى منابت الحياة يحث الخطا كليب أمام فاتنة، يمر من هنا وهناك، ويشم رائحة العطر الزهري، فيوقف خطواتها، لئلا تعرقل مشروعه اليومي في البحث والتحري عن تفاصيل ما في الأرض من أسئلة، تثير حفيظة هذا الكائن النبيل.
أنظر إلى الكليب، وأتأمل رقصات ذيله المعشوشب بالشعر الكثيف، أتأمل عينيه اللامعتين بالفرح، وهو يدب على الأرض مثل كيس يفهم في المبهم، ويعي معنى ما تتطرق إليه الطبيعة، عندما تفتح بتلات الأزاهير، وتنثر العطر، في ثنيات الوجود. في صمته الجميل، وداد من تتتبع خطواته، بأناة وتؤدة، يبدو الوجود رائعاً في وحدته واندماجه وانغماس الكائنات في رائعة الحب الكبير، الذي يجمع كل المخلوقات في وعاء واحد ويطمس الفوارق، ولا يبقى غير جمال العاطفة، متألقاً، مثل لمع الزهور فوق أغصان الأشجار العملاقة.
على الرصيف أشياء كثيرة تتألف من تفاصيل عدة، لكنها تعبر عن شيء واحد، وهو أن الله خلق الكائنات لتتوحد، وترسم صورة المستقبل في لوحة تجريدية مذهلة وباهرة، تجعلك تذوب في هذا المجموع، وتحب الوجود من دون حواجز، تعرقل ذهابك إلى الحياة، ولا شيء يثقل خطواتك باتجاه الآخر، لا شيء يعيق وصولك إلى نهر العلاقة مع الكائنات الأخرى.
أصعب ما في الأمر أنك لا تجد نفسك وسط هذا الحشد من الوجوه، والأسهل أن تكون من دون رواسب، فترى الطريق مفتوحة، والأنهار منبسطة، مثل الشوارع الفسيحة، والجبال مهيضة، مثل سهل أخضر التربة.
أن تكون أنت وهم في بوصلة السفر، فهذا يكفي لأن يجعلك متسعاً مثل الفضاء، وشفافاً مثل الغيمة، ورقيقاً مثل أجنحة الطير، وعذباً مثل النبع. هنا في هذه العاصمة الأوروبية الوديعة لا شيطان يذوب في التفاصيل، بل تسمق رابعة العدوية لتقول للعالم، «من كثر حبي للعالم لم يبق مكان في قلبي لكره الشيطان»، هنا تغيب الكراهية، ما عدا في بعض النباتات الشوكية التي جاء بها شيطان أخرس من أماكن قصية في بطن الغابة البشرية.
هنا القلوب مثل الأنهار تجري باستمرار نحو الامتداد الأرضي، لتصل إلى شرايين الأرض، وتسقي عروق الأشجار، بمودة، وتسود في المكان مثل الحلم في عيون الأطفال، مثل الكلام على لسان الطير، مثل الهفهفة بين الأغصان، مثل عشق المسيح للإنسانية. في لوزان يختصر الزمن عمر الناس، في لحظة ابتسامة بريئة، وفي لقاء عفوي يطيل العمر، ويجعلك تتحرر من أدران، وأحزان، وأشجان، وتكون أنت في قلب الوجود، مثلما هي الشمس في قلب السماء تكون أنت الجوهر في الكون، ولا منغصات طالما سكنت أنت في قلب وردة برزت في الوجود كي تعطر معاطف الناس جميعاً، من دون استثناء.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد