بقلم : علي أبو الريش
لا نستغرب أبداً عندما يذهب شخص إلى أبعد مدى، في الجريمة ويقدم على قتل والديه، مثلما فعل وحش الجولان في رأس الخيمة.. فالنفس عندما تتوحش يصبح الكائن البشري كاسراً، خاسراً جل أخلاقه وقيمه الإنسانية.. قد ينعت هذا الشخص الذي قام بهذا الفعل الشنيع، بأرذل النعوت والأوصاف، ولكن الإشارة إلى شخص ما بأنه مجرم، فهذا يعني أن هناك خللاً في نفس هذا الشخص، هناك فوضى أخلاقية في الذات، هناك زلزلة وخلخلة وبلبلة وجلجلة، في داخل هذا الكائن، والأسباب واضحة، وأهمها علاقة الإنسان بالذات أولًا، ثم الأسرة ثم المجتمع..
نحن بحاجة إلى علماء نفس يحللون ويدللون، ويزيحون الخيال الشعبي ليحل مكانه المنطق العلمي. فمن يقوم بمثل هذا الفعل أو السلوك المزلزل، فإنه نواة لجرثومة خطيرة، وهرمون سرطاني قد ينفجر في الذات، أو الأسرة أو المجتمع، أو في أي مكان من العالم. الأمر الذي يجعلنا نلح كثيراً على فهم مثل هذه الظاهرة، ودراستها وإيجاد الحلول اللازمة، وألا نكتفي
بالوقوف عند الجريمة في حد ذاتها، ومعالجتها قضائياً فقط.. فالعالم اليوم مفتوح على آخره، وما يحدث في أي بقعة من الكرة الأرضية تنتشر عدواه إلى كل بقاع الأرض، كما أن وسائل الاتصال والألعاب الإلكترونية، كل هذه أدوات هدم بارعة في تهشيم الذات، إذا لم تقنن ولم يوضع لها حدود قصوى ، فإنها نهر جارف سوف يسحب معه الضحالة والطمي، الذي سيغرق الكائنات البشرية.
فالتطور لا يعني التهور، والتقدم لا يعني التشرذم، والرقي لا يعني إرواء الأشجار من أي مياه، تأتي عبر وديان وطغيان.. ما فعله المجرم بوالديه يستحق منا التوقف عند هذه الجريمة المروعة، وألا تمر كما هي السقطات العادية، لأنها جريمة تمس الوجدان والأديان والضمير الإنساني..
إذا مرتكب الجريمة هذه هو إنسان، تجمد ضميره عند نقطة الصفر، فقتل والديه وهرب إلى المناطق الجبلية، وكأنه يبحث عن صخرة ليدفق تحتها ضميره الذي مات.. نحن بحاجة إلى قراءة الجريمة كظاهرة، وإعادتها إلى مستوياتها الأولى وإلى أسبابها، واعتقد أن السبب الأساسي هو فقدان الوازع العتمي والذي هزمته جحافل الأفكار الملوثة، والتي احتلت ذاتاً هشة في الأساس، فكبّلتها بسلاسل من أوهام وخرافة، ما جعل العقل ينحاز إلى مناطق ظلامية، ويختبئ هناك لأنه لا يملك القدرة على مواجهة المثيرات المفزعة، نحن بحاجة إلى الجديد في قراءتنا لواقع وسائل التواصل، وأجهزة التسلية الإلكترونية، التي لسهولة التعامل معها ولمثيراتها المدهشة استطاعت أن تستولي على العقول ليصبح الإنسان أداة من أدواتها.. هذا هو عصر الميكنة الخطير الذي حذر منه الفيلسوف مارتن هايدجر.. لأن سقوط الإنسان فريسة بين مخالب هذه الأجهزة الفتّاكة، يحوله إلى كائن معادٍ للآخر وكاره لكل ما هو إنساني.. سيطرة المادة تعني موت الروح، وموت الروح نعش يحمل كائناً هامداً بلا وجدان.. ولا قيم.
المصدر : الاتحاد