بقلم - علي ابو الريش
للأشجار وعي المكان والزمان، هي بعقل وروح وقلب. عندما تقترب من شجرة بحجم زمانك، وتتأمل الجذع الرهيب، ينتابك شعور بأن للشجرة حلمها بالبقاء كما هي أرواح البشر، تشعر بأن للشجرة ذاكرة بمساحة المحيط، وعمق البحار، وشساعة الصحراء.
هذه السدرة التي تحرس البيت القديم، وتحتضن طيوره، وتحفظ أعشاشه، تكلّمت سراً في ذات سرمدية، وجودية وفاهت بلوعة، كان لها الصدى المريع في صدر المعنى، كانت ترتل حفيفها بلباقة العشاق، وأناقة الأشواق، وتسرد حكاية الغياب الذي مزق قماشة الأحلام، ورمى بالقيم في بئر سحيقة، وباحت عن لواعج، تمشّت بين ضلوع ذاكرتها وقالت ما فاض في قلب الخنساء، وماج في روح نسيبة بنت كعب الأنصارية.
هنا تستوقفك الأسئلة الوجودية، وتفصح عن لوعة، مرّت في الثنايا كأنها الموجة العارمة، فنخرت في سواحل الفؤاد، وحفرت في المهجة، جدولاً ماؤه من دماء ساخنة، أيقظت، فهيضت، وروعت، وتوعرت، وتجهّمت، ووجدت، وصرت أنت في الوجود سحابة ضلّت طريقها إلى الشجرة، فباءت حيل الطير إلى الفشل الذريع.
هذه السدرة مباركة، لأنها لم تخن زمانها، ولم تغادر مكانها، ولم تبن منزلها من طوب الخرافة، بل أذعنت لإرادة البقاء، وتفرّعت، تغرس أغصاناً في الفضاء، متحدّية بريق الوهم، غافية على نهر من ذاكرة خصبة، مفعمة بصور الذين تظلّلوا تحت فيئها، وسبّلوا الجفون وهم يتأملون الطير كيف يبني عشه من دون ضجيج، وكيف يعانق عاشقته من دون مواعيد كاذبة، وكيف يمر نسيم الصيف، وأصابعه تتسلل بين الأعطاف، من دون توسّل، وكيف يأتي المساء، والسدرة تمشّط جدائلها، بمناقير الطير المدنف بحب الأغصان اللدنة، كيف تنشد الأفراخ، أغنيات المساء، وقد خطت أمهاتها رحالها، بعد رحلة البحث عن حبّات الحياة.
تتذكر السدرة، كيف كان قد الظهيرة حامياً ولكنها كانت تدلي بعناقيدها كي تمنحك نبقة اللذة، وتملأك الفرح. تتذكر السدرة في ذلك الصباح عندما كنت في الصبا، غراً، شقياً، تقطف من مهجتها نبتة الشغف، وتغادر تاركاً خلفك أوراقاً مزّقت قميصها، وتركت أزرارها، مقذوفاً على التراب. الآن لم يبق من السدرة سوى أعواد ذاكرة، وخيال جم، يسح بعرق النهايات القصوى، ووجه المرأة التي كانت تنهيك عن الشغب، وتوقظ فيك الضمير، وتقول لك: هذه الشجرة مثلي، ومثلك، لها أرهف المشاعر فلا تمسها بسوء، ولا تدع أوراقها تتساقط كأشلاء جسد منتهك.
وكنت أنت في غرور الصبا تضرب بيد من حديد، ولا تبالي، حتى أيقنت بعد حين، أنك كنت تمضي خارج الفطرة، كنت في صميم العدائية المدمّرة.