بقلم - علي ابو الريش
عندما تنظر إلى الطير في السماء، فتجد أن هناك أجنحة ترفرف، وأخرى تصفق، وبعضها تحلق، ترى عيونا تحدق، وتغرق في تأمل أشبه بما يفعله كهنة العرفانية في أتون العزلة السرمدية.
فلك أن تتأمل هذا المشهد، وتسعد، وتبعد كثيراً عن الضجيج والتأجيج، وحملة «الأنا» البشرية التي أصبحت أوسع من تضاريس الأرض، وأضخم من الجبال الشم.
تتأمل هذا العالم العفوي وهو يجول في سماء الله، وتفرح، لأن الكون ما يزال بعد يضم قائمة من المخلوقات التي لم يشوهها تقدم، ولا تأخر، فهي باقية على العهد مع الطبيعة، ما عدا هذا الإنسان الوغد، الذي غادر منطقة الأحلام الزاهية، واستقر به الحال عند مستنقع التهور، والتضور، والتبختر، والتجبر، ومضى في غلوائه، يحصد خساراته، لم يبق ولم يذر، من الطبيعة، إلا وقد نالها منه الضرر.
الطير يسخر، والشجر يمج هذا الشرر، ويمتطي جواد حلمه، وينأى بنفسه، من سور البشر. تقول لنفسك يا أيها المتفكر تمهل، وتزمل، بحفنة من أمل لعل وعسى أن تصحو الوحوش، وتعرف أن ما فعلته بالغابة ليس إلا عبث الخاوين، وعدمية اللاهين، والذين في قلوبهم مرض. فشيء من الجلجلة تتفشى، وتغشي العيون، حتى فرت غزالة الوعي من قسورة اللاوعي، وذهب الذين يعرفون أن «الأنا» عندما تتورم تصبح ورماً في العقل، وورماً في النفس، ولا مجال لعقد التصالح مع الآخر، طالما خربشت مخالب الأنا على سبورة الحياة، وأصبح الأعمى والأصم محض افتراء، وادعاء، وأهواء، وأرزاء، وأنواء، تثقل حياة الناس في هذا الكون الملتبس بفضيحة الاعتداء على السلام، والوئام، والانسجام، وأصبح التسامح، عملة قديمة، لا تصرف إلا في بنوك الدم، ومهاترات من أصيب بجنون العظمة، وذهان البارانويا، وغيرها من أمراض ما بعد الوعي، ما قبل نوم الضمير.
نتأمل هذا الكائن النبيل، وهو يطوف، تحت الغيمة، ويطوق أرواحنا بهفهفة، أشبه بالنسيم، تأتي ومعها يأتي وعينا بأهمية أن نكون متسامحين مهما علت الأمواج، يظل الحب وحده إكسير الحياة، وما الكراهية إلا مقامرة المفلسين، ومغامرة الهالكين في مضامير الخواء، وخمول الوعي.
نتأملك أيها الطير، وأنت ترسم صورة جميلة لفنان لا يملك ريشة، ولا ورقاً، بل لديه قلب من أفق يتسع عندما تضيق بالناس الطرق.
نتأملك أيها الكائن الجليل، وكأنك البحر في زرقته، يلون مهجة العشاق، وفي الثنايا أشواق أدفأ من قلب امرأة عاشقة.
نتأملك، وأنت في التجوال، كأنك النشيد على لسان الموجة، كأنك الأغنية ترددها الطفولة.