بقلم : علي أبو الريش
نادل لبيب يأتيك مثل فراشة ملونة بابتسامة الترحيب، وبين يديه تبدو فناجين القهوة مثل عصافير تزقزق بخفة عفويتها، ثم يقف وأنت تحدق بالهالة الرهيفة وعيناك منصوبتان على السلسبيل النازل من فم الزمزمية كأنه الرضاب، ورائحة المفندة الأقحوانية تخطل في وجودك السرمدي، تأتيك كأنها اللقاء الحميم مع كائن خرافي فجأة يخطب ودك، وبمباغتة جميلة، يستولي عليك، يأخذك إلى عالم عمرك الذي مضى، يوم كنت تحضر الأعراس، وأنت في صبابتك، وريعان السنوات البكر، تشعر أنك تمتلك الوجود، تحضنه، وتتسرب إليك همسة غافية على مسمعيك، مثل جناح طائر خفاق على سطح الماء، ويذهب النادل، ولكن الصورة تبقى في عينيك، طافية كأنها الوردة عند مجرى نهر أبدي، وأنت تشتاق إلى زمنك، تشتاق إلى وقت مر كأنه الغيمة، على صهوة الوجود، وأنت هنا في ردهة عزلتك، تمر عليك الوجوه بعضها مثل سحابة ضبابية، وبعضها مثل بريق النجمة، تسقط على قلبك وتضيئك، تصبح أنت المضاء شعاعاً على صفحة بيضاء، تصبح أنت قطرات ندى على ورقة لوز، تصبح أنت بياض الموجة عند ساحل منعم بالسكون.
يذهب النادل وتبقى رائحة القهوة تنثر أريجها، وتفترش في القلب سجادة مخملية، زاهية بألوان التاريخ، وما نسقته ذاكرتك من منمنمات عند أطراف ثوب الساري لامرأة فاضت بك، كما أنت رفعت النشيد من أجلها منذ زمن انتحاب القصيدة على مثوى المعري وغيره ممن لم يروا، ولكنهم أبصروا، وعلموا أن الحياة لا تذهب مع النظر، وإنما تبقى في البصيرة ترتل أسباب الأشواق، عندما تكون الأحداق نوافذ للدهشة، وعلامات استفهام للأسئلة الكبرى.
ذهبت الوجوه، وبقي في الأجمة عطر الذين يبخرون الحياة (بدخون) الألفة، ويحلمون بأيام لا يغادرها اللون الأبيض. ذهب النادل وظلت رائحة القهوة، تغنج كأنها غانية في يوم وصولها إلى ذروة الكمال، وأنت تجندل الكلمات، بخلاخيل الذاكرة الأزلية، وتسكب فنجانك في فرح الأيام التي لا تغيب نجومها، وأهداب الزمان تسدل ستائرها على وجنتي أسئلتك، وأنت تضع على منضدة أسئلتك أوراق البداية، ونهاية ما كنت تخبئه في معطف المسافات القصيرة، ما بين هذا الزقاق وذاك، والمناطق ، ومناطق الأفئدة المتجاورة، حيث لم يكن هناك فراغ، ولم يكن سهد على اللاشيء، الأشياء تتوالى حواليك، وأنت لا تغيب عن رفاقك، كما لا يأفل القمر في قلبك.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد