بقلم : علي أبو الريش
قال سقراط: «الشيء الذي أعرفه جيداً أنني لا أعرف شيئاً».
فالقراءة، المجال الحيوي للمعرفة، فمن يعرف لا يعرف، ومن لا يعرف يظل شغفه للمعرفة، دأباً وحدباً، وهذا هو ما بوسع القراءة أن تفعله، وأن تتركه وشماً في الذاكرة، ليبقى العقل مضاء بالحقيقة، وهو في كل يوم يطفئ شرارات الوهم والخرافة والمجازفات الغبية.. فنحن نقرأ لكي نحيا، لأن في القراءة، أمصال المقاومة ضد الموت، ضد السكون، ضد العصابية والفصامية، ضد كل ما يعيق الخلايا والنوايا، ضد كل ما يجعل العقل فارغاً مثل وعاء صدئ.
. في الحكاية القديمة «جاء رجل إلى كاهن، يريد أن يتعلم كيف يوقظ وعيه، فاستضافه الكاهن، ولما أراد أن يقدم إليه مشروب الضيافة، بدأ يسكب له الشاي، وظل يسكب حتى فاض الكأس، فاستغرب الرجل وصاح بصوت ضجر: لقد فاض الشاي، فالتفت إليه الكاهن وقال: أنا لا أملأ الجزء الملآن وإنما أملأ الجزء الفارغ. ثم قال عبارته المشهورة «إذا كان العقل مستبداً، فالصحوة مستحيلة». نعم نحن بالقراءة ندع القلب ينبض، ليحرك سائر الجسد، ويمنحه الحياة والحيوية.
. نحن بالقراءة نغسل قماشة العقل من نفايات وفضلات وقذارات، ونجعلها منقوشة بحروف كلمة «اقرأ»، نحن بالقراءة نبني للطير عشاً لا تهزه الرياح..
ونحمي غابة الغزلان من مخالب المفترسات والضواري، ونمنح للأسماك زعانف لا تعكر حركتها موجات بحر هائج.. نحن بالقراءة، نمد أناملنا إلى الغيمة، كي تعانق الأرض، وتبلل أعشابها بالماء الرقراق.. نحن بالقراءة نطرق أبواب النجمة، نحييها من بدء، كي تضيء فناءنا، بمصابيح الليل اليقظ.. نحن بالقراءة، نعيد للقراءة منطقتها، المشغولة بالفراغ، كي تعيد لنا ما ضاع شعاب اللهاث، وغيبوبة العقل الخامل.
نحن بالقراءة، نجلس على مائدة ثرية سخية، مع أطفالنا، نقول لهم اقرؤوا هذا الكتاب، لأنه من نقش المعرفة، واقرؤوا ذاك لأنه من صياغة الفكرة المجللة بالحلم..
نحن بالقراءة، نحفظ فلذات الأكباد من العبث، بفطرة الله، في شؤون تهدم ولا تخدم، نحن بالقراءة نتلمس أهداب الشمس، ونسكن في الوميض أشجاراً، أوراقها بلون الأحلام وأغصانها بصرامة الطموحات الكبيرة، وجذرها بشيم التراب النجيب..
نحن نقرأ، لأننا لا نستطيع أن نتنفس هواء ملوثاً، ولا نستطيع الارتواء بماء ضحل، ولا نستطيع العيش، بغذاء فاسد.
. القراءة هي المنخل والمنجل والمنهل، والصوت الجميل، الناهض من غريزة الإنسان، ومن نسيجه وأسباب وجوده.. القراءة، هي الجزيرة ونحن طيورها، هي القيثارة ونحن نغماتها، هي الصورة ونحن ملامحها، هي الوجود ونحن أصابعه الممتدة إلى المدى.