بقلم : علي أبو الريش
تحت شرشف الغيمة بلل العصفور أجنحة المطر، وتعافى الشجر، والوجوه مثل صفحات القمر والأحداق، تحت الرموش مثل نجوم تباهت بالضوء، كل شيء يارب عندما يسخو المطر، يرنو إلى السماء ويصفق، ورعشة الأوراق يصيخ لها القلب مثلما تصيخ السواحل لوشوشة الموجة، مثلما هي المهجة تبد فيضاً من الفرح، عندما تخلع الوردة ثوب عطرها، وتغني للمساء، ها هنا طهارة الأشياء عندما تعانق الفطرة شغاف الوجود.
من معطف الغيمة، تخرج النبوءات وآيات الرحمن، في الضوء، في الماء، في نقاء الطير، وعفوية الطفولة، هنا توقفت الصغيرة مرتشفة القطرات، وعيناها لؤلؤتان وخداها تفاحتان، اغتسلت بالمطر ويختلط الصوت بصوت البلابل، فأيهما أحب إلى الله، إنهما معاً، لأنهما من النقاء اشتقا قماشة الحياة، ومن الصفاء، بعيداً في الوجود.
من نقرات الغيمة على الأوراق، على الأعناق، على الأحداق، يرتفع النشيد عالياً، ويصفو التاريخ، متحللاً من أحزانه وأدرانه وأوثانه، ويمضي في نسيج الكون كأنه الطفل الغرير بلا ذنوب، ولا خطوب، ثوبه الشفاف، كلمات تنطقها طفلة، صحت في الصباح، على أنغام، لم تشهد لها مثيلاً، فأغمضت العينين، وفتحت فاهاً صغيراً بحجم خاتم الخنصر، واقتطفت من السماء قطرات اللذة، بينما العصفور يرقب المسافة ما بين القطرة والفم، ما بين النبرة والأرض، والأغصان شهود، والسماء سقف بوشاح أبيض.
. لدن الغيمة، نغمة، ونعمة ونجمة وقمة، تحت أرجائها تحلق الأشواق، النهار مخضب بالماء ونخوة المطر الغيمة، فراشة تسدل أجنحة البلل وتطير باتجاه القلب، وفي الذاكرة دفاتر تخبئ المعنى، ولا أحد لم يلتقط حبات النبق تحت السدرة التاريخية، بعدما تخض أركانها أصابع المطر، ولا أحد، لم يسقط سقف خيمته يوم كان السقف من بنان النخلة وبيانها وبنيانها، ولا أحد لم يرتجف ساعة الهطول الطويل وغزارة الرحيق.
هذه الذاكرة تخزن كأنها النهر في أحشائه تختبئ أسرار السماء وأخبار الغيمة، هذه الذاكرة عندما تهز أغصان الغيمة لتسقط الثمرات ماءً فراتاً، تقلب أوراقاً، وتشعل أشواقاً، وتنفض أخفاقاً وينهض الرأس من سبات الزمن متغرساً في الوجود، محترساً من الغفوة، لأن الغيمة على النافذة تطل كأنها عيون الطير، وشعاع ما أسطوري، يتسلل بهوادة، وتؤدة، يدخل في جوف
الأشياء، يتوغل ثم يعلن عن صباح مجلل بأحلام الغيمة ورقصة العصافير ساعة الابتهال، تحت الغيمة في ظل الغيمة، عند مسافة أقرب إلى الحنين، صور ووجوه وأسماء وكائنات تبدو مثل الملائكة تطوق الذاكرة، تحشد جل قواها، كي تسطو على الزمن، وتستولي على لحظاتك، متدفقة مثل النسيم، مثل النعيم والمطر بصوت جهور يفصح عن حصافة السماء وفصاحة الغيمة.
المصدر : الاتحاد