بقلم : علي ابو الريش
وجد الإنسان عارياً خاوياً، إلا من عقله وقلبه. ماذا قال له عقله؟ وماذا قال له قلبه؟ قال العقل: أنت الآن هنا، في هذا الوجود الضخم وحيداً، لا تملك من زاد الدنيا شيئاً وعليك أن تصارع وتقارع، وتفعل كل ما بوسعك، لإخضاع الطبيعة، لتصبح أنت الآمر الناهي، وتصير الطبيعة طوع إرادتك، وعندما وضع الإنسان نفسه في وجه المقارنة شعر بالضعف حيال هذا العملاق الواسع القدرات، ففكّر وتبصّر وتدبّر، ووصل إلى فكرة هدته إلى طريقة شعر أنها الأمثل، وهي الاحتيال على الطبيعة.
كان لا بد من إيجاد الحيلة، لكي يتغلب الإنسان على ضعفه وهوانه، وينتصر على معطيات الطبيعة، فاتخذ قراره وسار في درب التآمر على الطبيعة، وأول ما فعله هو زرع الأحلام، والتخفي خلف حزمة من الأوهام التي دلّته إلى اعتناق الزيف وارتداء الأقنعة. منذ ذلك الحين، الإنسان يمضي في أزقة الحياة، وهو يتلصص طريقه من خلف الأقنعة والوجوه المتعددة، ومع تراكم الخبرة، أصبح لدى الإنسان إمكانية تجاوز العقبات بسلاح الكذب وتأليف القصص والحكايات الخيالية التي لا حصر لها وصنع التاريخ، وفي ثنايا التاريخ تختفي مجلدات من الكذب، فقال الإنسان بداية: إن الأرض هي مركز الكون، وأنه يتربع على عرش أكبر كوكب في هذا الكون، ثم أعلن انفصاله الكلي عندما ألف قصة، أنه أنقى الكائنات على الأرض، وأنه في هذا الوجود وُجد منفصلاً عن الوجود، بل وهو من جنس نقي ومتفوق على الكائنات، بحكم ما لديه من قدرات عقلية تفوق قدرات الكائنات الأخرى.
وصار لديه أنا، يقوده إلى منجزات باهرة، ولكن هذه المنجزات التي أسست حضارته، جعلته في خضم التنافس ليس مع الطبيعة، بل مع بني جنسه، فاشتعلت الحروب ودارت المعارك البشرية على الأرض، وبدأ الإنسان يدمر ما يعمر، ويخسر ما يربح، ومن هنا تدخل القلب، وبدأ يأخذ مبدأ الرقيب، وشيئاً فشيئاً تكوَّن الضمير الإنساني، ولكن هذا الضمير لم يجد الراحة وسط سهام عقلية موجهة ضده، للدفاع عن مكاسب عقلية على مر الزمان. وفي خضم هذا التباين ما بين متطلبات العقل ورغبات القلب، تضاعفت حزم الكذب، التي يصوغ حبائلها الأنا، وانشطر الإنسان إلى كائنين، الأنا ويمثله العقل، والكينونة ويمثلها القلب، ومن بين هذا الصراع نتج الصدق، والذي هو من فعل القلب، ولكن الأصفياء هم قلة من البشر، مثلهم العرفانيين، الذين انحازوا إلى تطلعات القلب، واختاروا طريق التأمل، وتنقية الكينونة من زبد الكذب، الذي بنى صروحه العقل على مدى قرون من الزمن، ولم يزل القلب يقاوم رشقات العقل، وينظف ساحته من الأفكار، كون الأفكار هي سياج العقل التي يتخفى خلفها، ليكمل مشاريعه المزخرفة بالكذب، وكذلك بالعدوانية ضد الطبيعة.
العقل أخرج الإنسان من فطرته، التي هي جزء من الطبيعة، والعقل المقاوم الذي يريد العودة إلى الأصل، إلى حضن الوجود.