بقلم : علي أبو الريش
في رمضان يختزل الزمن، في ليلة مباركة، تلف فيها الفراشات أجنحة الفرح، وتفتح الأزهار صفحات العطر الأثير، والوجوه تبدو كأنها أوراق التوت، مكسوة بقطرات الندى. في الليل كل شيء ينفتح على العالم، ويصير الوجود نيراً، مضاء بمصابيح الألفة، وفنجان القهوة فواحا مرتاحا على الشفاه، يعبق الفضاء برائحة الهيل والزعفران وعبق الأنفاس.
في الليل، لا تتثاءب الغرف المفتوحة، ولا تمطق عضلات اليدين، ولا تغمض الأعين. كل شيء في الليل يقظ، وصاحٍ، وكل شيء في الليل بسَّام، بوسامة الوجنات المشرقة، المتألقة ببريق العيون المكحلة بأثمد الحياة والحيوية وإيجابية العطاء. في الليل في رمضان، الأحلام تبدو مثل عيون الطير صافية، نقية نقاء بحر الخليج العربي.
في الليل، تسهر أباريق الشاي، وكؤوس العصائر، مجلجلة مكللة بالفوح والفرح، تشرح كيف يكون للألفة دلالة المعنى الإسلامي، وسماحة الأفئدة المفعمة بروحانية الليالي الثرية، بإيمان المخلصين الصادقين. في رمضان، تصحو القلوب على قراءات المدنفين، بالجلال والجمال والكمال، وفضيلة الأتقياء، الأنقياء الأصفياء، النجباء النبلاء، الذاهبين بالعبادة إلى حيث يخشع العبد، وتدفع مآقيه بقطرات الدنف والكلف، وما هتفت به أعطاف المحبين.
في ليل رمضان، لا شيء يغفو، بل يهفو إلى اللقيا، وأحبة تلتقي ثناياهم بطوايا من أحبوا، وفارقوا وذرفوا من المحاجر، ساخنات القلوب. في ليل رمضان المصابيح لا تكل ولا تمل، بل تدل على أن الحياة هي أن تصوم عن الثرثرة، والقلقلة، والبلبلة والجلجلة والكلكلة، وأن تهوى من لا يهوى غير من هواه في الدين، هواء وغذاء وكساء وصفاء ونقاء وسناء وهناء، لا فيه رياء ولا اكتواء ولا عناء، ولا ازدراء، ولا انحناء ولا انثناء، بل قضاء يقضي نهارك في الصمت عن الرعناء والشعواء والعشواء والغوغاء، وليل يغنيك عن الابتلاء والدهماء، في ليل رمضان يأتيك الزمان على راحة ناثرة الأمان، ثرية بالاطمئنان، عزلاء إلا من التسبيح، بعيداً عن التجريح والتقريح والتبريح.
في ليل رمضان، أنت.. أنت، المفطر على تمرة القناعات، وثمرة الله المبجلة، من نخلة العمر، من عناقيد البركة، من أصغر محمر من رطب جني، من سكر الجنة، وعطاء الرحمن. في ليل رمضان، أنت.. أنت، القابض على جمرة الحب، عاشق العزلة السرمدية، لك في الليل خيالك، وخيلك تسري بك إلى حيث يكمن بهاؤك وحيث تطمئن القلوب، آمنة مستقرة.