بقلم : علي أبو الريش
لو فجأة دخلت أحد المحال الكبرى، وشاهدت شخصاً يرتدي بنطالاً ممزقاً، وقميصاً متعجرفاً لم تلمسه حرارة المكواة، سوف تستغرب الأمر، وكثير من الناس الذين سيشاهدون هذا المنظر، سوف يشاطرونك المشاعر، ولكن بعد فترة وجيزة لو زرت أحد المولات، ستجد أكثر من شخص يرتدون تلك الملابس نفسها التي استنكرتها.
العقل الذي دفع الشاب الأول بارتداء تلك الملابس لأجل التميز، ولفت الانتباه، هو العقل نفسه الذي أغرى الآخرين لكي يقلدوا ما استنكروه في بداية الأمر.
العقل كائن مراوغ، فمرة يستهجن فعلاً ما، ومرة يقلد الفعل نفسه، لأنه يعيش دائماً حالة التمظهر. إنه عندما يرفض الشيء، فإنه يقصد من ذلك التميز، وعندما يقلد الشيء نفسه الذي رفضه، فإنه يقصد التميز أيضاً.
هناك في العقل قوة غاشمة، دائماً تسعى إلى كسب القوة، في مقابل قوة دفينة هي قوة الضعف. ما بين النقيضين، قوة القوة، وقوة الضعف، يخضع العقل ويساوم، ويقاوم، ويداوم على الرفض والقبول، وفي نهاية الأمر يتوقف عند نقطة الصفر، وهي التبعية.
العقل لا يستسلم، لأن الاستسلام ينبع من الحب، والتبعية تنبع من الخوف. العقل يخاف من الضعف، فيتبع ويقلد، لأنه لا يملك ملكة الحب. القلب يحب، فيستسلم، يضع كل فرديته في خدمة الكلي. عندما يحب رجلاً امرأة فإنه لا يمتلكها، وإنما يتوحد بها، ليكونا اثنين في واحد. وكذلك المرأة. حب الوطن استسلام، وذوبان في الكل، وانغماس في الآخر.
في الحب تغيب الشخصانية وتحضر الفردانية. يكون الإنسان في الحب فرداً متميزاً، لكنه ليس منفصلاً. عندما يحب الفرد، فإنه يندمج، وعندما يندمج تختفي الفواصل، ويصير الواحد في الكل، فماذا سيقلد الإنسان الذي لا يجد ما يفصله عن الآخر غير الحسد، بينما الأرواح دخلت في نهر الحب، مثلما تدخل قطرات المطر في بقع الأرض، لتصبح نهراً، النهر لا يختفي، كما الحب لا يختفي.
الحب حاجة روحية، والتقليد حاجة عقلية. الذين يقلدون لم يصلوا إلى جنة الحب، هم لا يزالون عالقين عند الأدغال أو هم في وسط الغابة. عندما تكون في الغابة، فإنك لا ترى السماء، وكل شيء من حولك يثير الفزع، فتضطر إلى تقليد كائنات الغابة لتستطيع مواصلة العيش. الذين يقلدون، هم أطفال كبار، لم تتكون الروح
لديهم بعد، يملكون العقل، والعقل بلا روح مثل طائر بلا جناحين. إنه في شكل طائر، لكنه لا يطير. الروح، جناح الإنسان، يصعد به إلى حيث يكمن الصفاء والحقيقة. الحقيقة التي تسكن داخلنا، نحن الحقيقة، عندما نصفو، وينقشع غبار التاريخ.