بقلم - علي ابو الريش
صورة بديعة لشجرة اللوز وهي تلامس بحنان زجاج النافذة، وتطل على الوجود بهالة من اخضرار الهيئة المرفّهة بنعومة أجنحة الطير، وبذخ الثمرات المعقودة على الأغصان، كأنها القلائد. وقفت المرأة من خلال النافذة تتأمل لون السماء الزرقاء، كأنها شرشف الحرير. بدت عينا المرأة مثل لوزتين لم تنضجا بعد، وفي المقلتين لمع بريق دمعة حائرة تبحث عن أنامل تمسح ملوحتها. تنهّدت المرأة وهي تصيخ السمع لصفير سيارة الإسعاف، ووضعت أطراف أصابعها على حافة النافذة، منحنية إلى الخارج، لعلها ترى ما يجري في الخارج، ولكن جداول العينين أغشت رؤيتها، فامتنعت المرأة عن الانحناء أكثر، تقهقرت إلى الوراء، كانت قطتها تموء، كأنها تنادي من غابوا، وتواروا خلف حجب الوباء. نظرت إلى القطة، تأمّلت عينيها اللؤلؤتين وتذكّرت حفيدها الصغير، تذكّرتكيف كان يضم القطة، ويداعب الشعيرات النائمة على ظهرها، كأنها زغب القطا، تذكّرت حليب الصباح الذي كانت القطة ترشفه من كوب صغير، يحمله حفيدها بيد أشبه بملعقة من لحم ودم.
توهّجت مهجة المرأة بخفقات هزّت صدرها الضامر، وتضوّرت جوعاً لزمن بات في قبضة الأمنيات البعيدة، وراحت ناحية التلفاز الذي كان يثري المشاعر بأحلام ما بعد الجائحة، وأدارت قرص الجهاز القديم، حتى وقعت عيناها على صورة هشّمت قلبها الضعيف، فاضطرت إلى التحول إلى قناة أخرى، وظلّت تدير القنوات بفطرة الأمنيات المتدحرجة على صفحات القلب، مثل كرات نارية لا يبرد لهيبها، ظلّت تبحلق في الشاشة الملونة، وكأنها تلاحق كسوف الشمس، أو خسوف القمر.
نفرت من المشهد الأليم، كأنها تفر من قسورة، واستدارت تبحث عن ذاتها، وأدارت وجهها ناحية النافذة، وكانت القطة تلحس أطراف أصابع قدمها، وتتشمم رائحة الذين غابوا منذ أمد، ربما تسفر من بين ثنياته صورة مثلى لأحبة أحبوا الحياة، فتداروا بعيداً لأجل قد لا يطول، من أجل حياة أكثر إبداعاً، من أجل تاريخ سوف يسجل صور ملحمة حدثت تفاصيلها على هذه الأرض، وتكتب عن رجال ناضلوا، وتفانوا، كي تستمر الحياة، وكي تضاء القناديل من أجل حفلة كونية، يكون فيها الإنسان البطل الأسطوري، ويكون الوطن قاموس الكلمات البلاغية والمحسنات البديعية.
نامت القطة على ذراعها، كما غطّت هي في سبات عميق، لم تصحُ إلا على صوت أشبه بالهديل، ينادي: جدتي.. جدتي، ولما فتحت عيناها لم تجد إلا القطة، وقد فتحت عينيها على أثر وثبة المرأة، وصارت القطة تموء، وتموء، وكأنها تقول لصاحبتها: نامي سيدتي، نامي، فلعل الغد يكون أحسن. لم تغمض السيدة عينيها، لأن الحلم كان أجمل من الواقع، ولأن الحلم كان يحمل في طيّاته بشارة نهار أجمل، ووجوهاً أكثر إشراقاً.