بقلم - علي ابو الريش
حين فتح عينيه للشمس كانت تستسلم للغروب، وتمد خيوطاً ذهبية للوجود، وتسرج خيول عشقها لعالم آخر، استدار جانباً وأحنى ظهره يبحث عن محارة فارغة، ليرمي بها في جوف البحر.
كانت الموجة تتخبط على الشاطئ وطيور الكروان تتسرب على الرمل المبلل، تبحث عن دود الأرض. أخذ الرجل الكهل نفساً عميقاً، وهو يتذكر الأخشاب العملاقة التي كانت تسترخي على الساحل، مسترخية بعد سفر طويل.
تذكر ثلاثة أبناء لم يرهم منذ أربعة أشهر، وتذكر القبلات التي كانت تلامس قمة رأسه، منثنية كأنها قطرات المطر على شفة التراب النبيل. أدمعت عيناه وهو يشيع آخر نظرة توديع ترسلها شمس الصيف، محدقاً في اللاشيء.
بصوت مشروخ، غنى للحب، للحياة، للناس، لكل الذين حجبوا، وتواروا خلف ستر الجائحة. قال في سره وهو يتنهد: تلك أيام مضت، كانت تحمل في طياتها عبق الحب، كان الحب بحجم التضاريس التي طوّقت الوجدان والأشجان بعطر الغافة، وشجى السمر، ونبل النخلة الرابضة على التاريخ، مثل ابتسامة عريقة، تمشّت على شفتين لميائيتين، وأسهبت في الرعشة اللذيذة.
نهض الرجل واستدار ناحية القرية النائمة على فراش الصمت، الحالمة بيوم يأتي بلا ضجيج الجائحة، تملى الزقاق المطل على باب البيت الجاثم على نفرة المرتقبين لصوت ما يأتي من فضاء بعيد، الهامدين مثل أحفورة نسيها التاريخ، وأضحت تلملم بقايا أحداث مرّت من هنا.
سار الرجل، يسير بخطوات واهنة، ويمسح دمعة لمعت من تحت الجفنين، وصل إلى حافة الوعي بأهمية بأن يعود أدراجه إلى مخدعه، قبل أن يصرخ الصوت المتهدج محذراً من مغادرة المنازل.
وصل في الوقت المناسب، وكانت الزوجة تعد قهوة المساء وتتمتم: ليت ولدي هنا في هذه الساعة التي تفوح فيها القهوة برائحة اللقاءات الحميمية، نظر إليها الرجل بعينين ذبل جفناهما، وابيضت حدقتاهما، ثم زم بوزه على كلمة تجمّدت أطرافها، ولم يفرج شفتيه عن مغزى ما فكّر فيه.
تربّع الرجل، ثم شعر بألم في مفصلي الركبة، فتمدد مستريحاً، وأخذ فنجانه وراح يمزمز رشفاته بهون على هون، وقلبه مأخوذاً إلى منطقة من الوعي، إلى مكان تشرق فيه عيون الأحبة، على أحلام قد لا تبدو أحسن حال من حاله، مدّ يده وأخذ الفنجان الثاني، كانت القهوة الساخنة بخور الصدر، كانت عطر التاريخ وذائقة الناس الطيبين، يرتعش فنجانها في يده، فيضطر لضمّه بيدين، فتدمع عيناه، متذكراً الفتى الذي كان يقبض بالمجداف بيد كأنها مفك المسامير.
تقهقر إلى الوراء، وأسند ظهره المنحني على المسند القطني، ونظر إلى الباب، تخيّل أن أحد الأحبة سوف يدلف في تلك اللحظة، تخيّل أن الضجيج انتهى، ولكن ما كان الباب ليفتح، فما كان إلا لحيوان أليف مضّته حرارة الصيف، فالتجأ إلى برودة انسلت من تحت فرجة الباب، فانسل هو أيضاً يبحث عن يد ما تملس شعر ظهره، يبحث عن الحب، فاستجاب الرجل الكهل، باحثاً هو أيضاً عن حنان مفقود، مفتشاً عن لمعة عينين تضيء مساءه.