بقلم - علي ابو الريش
حنينك إلى وجه ما، أو زقاق، إنما هو سفر في محيط الذاكرة، هو غبطة الوعي في لحظة الاستفاقة. حنينك، منطقة في الذهن، تستيقظ لمجرد هبوب نسمة عند ضفاف الوعي، تصحو أنت وكأنك جئت من مكان بعيد، أو سفر طويل، لتحط بأشرعتك عند زمن ما ظننت أنك غادرته، أو أنك شطبت اسمه من سبورة الدروس الأولى، ولكن تلك مجرد مزحة، أو فرصة لاستراحة محارب، أو سنحة للمرور عبر شوارع ربما تكون مدهشة، ولكنها لا تفي بكل الأغراض، فأنت بحاجة إلى طفولتك التي ازدهرت بالصور البراقة،
والأحلام الزاهية، والأيام الباهرة. أنت تستعيد حلقة من حلقات الدورة الدموية التي سرت في العروق والشرايين، وأنت تستدعي مكانة الفطرة، وقدرتها على تصفية الماء الضحل. حنينك، يأمرك بأن تفطر بعد صيام النوافل، وأن تغادر عزلتك إلى حفل كوني يعيد لك بهجة بدائيتك وأبديتك، ويخرجك من شرنقة الحكايات المغلقة، والهروب إلى حضيض الإخفاقات الأولى. حنينك هو نعيمك، هو جحيمك اللذيذ، هو رقيتك التي تحفظ ودك مع الحياة، هو حرزك الذي يقيم السقوط في الأنانية، وانحطاط الوعي. حنينك هو إعادة جدولة حساباتك، والتخلص من الإدانة والاستدانة. حنينك، مملكتك التي تستعيد لك تضاريس، ربما اجتاحها بحر النسيان في لحظة مباغتة، وحنينك هو مرحلة ما بعد الرحلة الطويلة، هو التواصل ما بين النقطة والفاصلة،
وما بين السطر والسطر، فأنت في الحنين تعبر النهر من دون عواقب محتملة، ومن دون نواكب مجلجلة، أنت في الحنين، قاب قوسين أو أدنى من جنة الحلم الفائت، أنت في الحنين، الأقرب إلى الحلم من أي وقت مضى، أنت في الحنين، ترى ما لا يراه الحالم في النوم، أنت في الحنين، وكأنك على ظهر مركب، يذهب بك إلى تلك النجود، وإلى تلك الخدود، أنت في الحنين، أجمل من لون الوردة، لأنك نأيت نفسك عن الشوائب والخرائب، وأصبحت أنت وليس غيرك، أنت في الحنين، مرآة تعكس صورة عالم لم يسوده الغبار، أنت في الحنين، موجة تغسل السواحل ببياض العفوية،
وتمضي إلى الحياة، بمهجة الفطرة المؤدلجة بالشفافية. أنت في الحنين، مثل كاهن تشرق في عينيه، رؤية ما يجهله الآخرون، أنت في الحنين، مثل صوفي غرقت عيناه في بحيرة التأمل، حتى قال (أنا الحقيقة)، ثم نام قرير العين هانئاً. أنت في الحنين، مثل عيني طائر، تسبح تحت جفنيهما، صورة موجة الصباح.