بقلم : علي أبو الريش
الإنسان الحقيقي تواق إلى الأعلى، الأعلى لا نهاية له. لذلك فإن المبدع، غير التقني. التقني ينظر إلى النتائج، بينما المبدع لا نتيجة لإبداعه غير الاندماج في الإبداع. لا يشعر المبدع أنه وصل إلى الذروة، ولو داهمه شعور كهذا، فإنه يموت أو ينتحر.
الشاعر يكتب قصيدة، وبعد الانتهاء من كتابتها، يشعر بالحزن، لأنه لا يزال يختزن ما لا يقله، وما لا يقله هو كامن في الجوهر، والجوهر هو الداخل، والداخل متصل بالحقيقة، والحقيقة مثل المحيط، لا نهاية لها.
طاغور الشاعر الهندي الكبير كتب أكثر من ست عشرة قصيدة، وعندما ألم به المرض، شعر بالحزن، وطلب من الله أن يمهله، ويمنحه فسحة من العمر، لأنه وجد نفسه أنه لم يكمل بعد القصيدة التي تكمل مشواره الإبداعي.
المبدع لا يشعر بالسعادة إلا عندما يشرع في كتابة عمل إبداعي، وما أن ينتهي من كتابته، يبدأ في دوامة حزن جديدة، على عكس التقني الذي يقفز فرحاً كلما أنجز عملاً، بينما أثناء العمل يكون مشدوداً، وعصبياً، لأنه ليس جزءاً من العمل الذي ينجزه، بل هو منفصل عنه، هو يقوم بأداء واجب عقلي، والعقل لا ينغمس في الأشياء، وإنما يقف فوقها.
الإبداع عمل روحي، والروح مفصل من مفاصل الحياة. الروح سمكة في قلب المحيط. والعقل قارب على سطح المحيط. لا تستطيع السمكة، مفارقة المحيط، وإنْ فعلت ماتت. لكن القارب، هو زائر في المحيط، يستطيع مغادرته متى شاء.
المبدع تواق إلى الأعلى لأنه يملك الروح، والروح كائن سماوي لا يلبث أن يهفو إلى الأصل، إنما العقل فهو من صنيع المادة، هو من نفايات الأرض وبقايا التاريخ، هو حافظ المفاهيم والأفكار والمعلومات. نستطيع أن نطلق عليه أنه حاسوب آلي لا أكثر، فهو بقدر ما ينجز، فإن أخطاءه كثيرة، وخداعه جمة.
المبدع إنْ استخدم عقله في عمل معين، فإنه سيقع تحت طائلة النظريات، وأساطير المفكرين، ومن ثم سوف يبدو مثل الحطاب الذي يدخل الغابة، لا هم له سوى جمع أكبر كمية من الأخشاب، وقد يعيث فساداً بالأخضر واليابس، ولن يبقي ولن يذر. في أن الروح كونها متصلة بالعالم، فهي مثل الأم الرؤوم، تحنو ولا تقسو، وكل مكونات الطبيعة هي من تكوينها، فهي مفرطة بالحب إلى درجة الذوبان في الكون. وتوق الروح، هو إلى كمال الأشياء، لأن كمالها، من كمال المبدع الخالق.
المبدعون أطفال، والأطفال أبرياء، والطبيعة بريئة، ونحن مندمجون في الطبيعة إلى حد التلاشي. وهنا يصدق قول الصوفية، عندما تبدأ عبارتهم بالقول «أنا من أهوى، ومن أهوى أنا».