بقلم : علي أبو الريش
ذات مساء وضب أبوبكر سالم بالفقيه أشياءه الصغيرة، ورتب تفاصيله، ورحل إلى حيث تخلد الأسماء، وتتأبد الصور، وتبدو الوجوه مثل النجوم، لا تذوب في الوجود، بل تذهب لتستريح، وتغفو قليلاً، لتعود بنفس البريق، تعود، ومهجعها عطر أيامها، وبوح أحلامها، ونسق آلامها اللذيذة التي مسحت على قلوب العشاق حتى نبت عشب الازدهار العاطفي، وازدانت حقول الروح بأجنحة الفراشات، وعبق الورود، وهكذا يذهب هذا العملاق بعيداً ليطل على محبيه من خلال نافذة تاريخه الفني المديد، ومن هناك يبدأ التواصل، ويبدأ تلحين أغنية الحلم الإنساني، والألم اللذيذ، هناك يضع أبو بكر سالم، فصوص الزمرد على خاتمة الأيام، وهناك يضع قلادة أغنياته الجميلة في دواليب عشاقه ليحفظوا الود، واحتفظوا بهذا المخزون الثري الذي افترش مخمله في الوجدان الخليجي زهاء ستين عاماً، كانت عامرة بالابتسامة، والصوت الجبلي الجهور، وهو يقطف قطرات الشهد من خلايا الأماسي على ضفاف الخليج الأغر، ومن ثنيات الجزيرة المعلقة كشمعة عند خاصرة التراب النبيل، وتحت قبعة السماء المذهلة.
في أصياف الخليج العربي، وعند شغاف الشطآن المسترسلة شوقاً لمراكب السفر البعيد، كان اليمني العتيد يسهب في لوعته، وهو يدندن على عود الغربة، ويرتل ألحان أبي أصيل منغمساً في الوجود مثل حبة الملح في بركة الماء، وكان الصغار، من أبناء القرية الأبدية (معيريض) يلتئمون حول المغني ويرددون، اللحن الشجي، ويحملون الصوت إلى بيوتهم، وإلى منافيهم العاطفية، وفي الليالي المقمرة، وعلى صهوات المنامات الصيفية، يصدح صوت أبي أصيل، ويسافر بالعشاق إلى مناطق جبلية، فيها ينبت زهر الرمان، والليمون، وفيها تطير عصافير الأشواق وتحدق الحمامات عبر ثقوب في الذاكرة، وتنقر في صفحات القلب، وتؤلب الزمان والمكان كي يحضرا معاً حفلات أبي بكر المفتوحة على العالم، المحلقة في السماء، كطيور نورس هائمة تبحث عن ملاذ لشوقها، وتوقها، وعشقها، ونسقها.
والصيف في الإمارات كان صيف لقاء الأحبة بعد غياب وسفر، وكان أبوبكر، هو جناح السفر، وهو شراع العودة، وبين تلافيف أغانيه سكنت الأمنيات، ودموع الفرح، ولوعات العتاب، كان هو فقط الساكن في لب الأغنية القابض على جمرة الألحان، المتتبع لأشجان الناس الحادبين مابين ضاد الكلمة ولام اللقمة، الغاسلين وجه النهار بعرق الجبين، المرتبين شرشف الليل، بأنغام أبي أصيل، العاكفين صباحاً، على تلاوة ما قاله الليل، وما أسدته النجوم للقمر، وما حكته الغافيات على مخدات الأحلام، عن السر في روعة أغنيات أبي بكر، وعن جوهر حب الناس لهذا العملاق والأسطورة والموجة التي وشوشت للخليج بأن الحب هو وحده السيف الذي يقطع دابر الحقد والعدوانية.